يحكى أنه كان لأحد السلاطين ابنا، وككل أولاد السلاطين خصّص له السلطان مؤدّبا في القصر يعلّمه حفظ القرآن، وجاءه بأساتذة يعلمونه العلم، الأدب، الشعر، التاريخ، الجغرافية، كما أنّه تعلّم الفروسية وكذلك الصيد. فأصبح ذلك الولد جامعا لكل العلوم وقادرا على إعطاء أيّ درس في أيّ مجال. قال السلطان:
-” الآن أريده أن يتعلم صناعة يدوية”، فأجابه الوزير قائلا:
-“كيف ذلك يا سيدي؟ هذا الصغير ابن سلاطين وهو بعد أن يُطيل الله عمرك سوف يجلس في كرسي حكمك يا مولاي، فما الفائدة من الصناعة اليدوية التي سيتعلمها؟ هل هو في حاجة لأن يتعلم صناعة النجارة أو الحدادة أو صناعة الحرير أو صناعة القباقب؟ فأجابه:
-“يا وزير، لا يدوم في هذه الدنيا إلاّ وجه الله، لا يدوم أيّ ملك ولا أيّ شيء آخر… من يدري؟ ربما في يوم من الأيام تثور عليه الرعيّة ويُفلتُ المُلك من يده، ماذا سيفعل حينها؟ هل سيصبح شحاذا يطلب يد المساعدة؟ كم من ملك أُطرد وافتُكّ رزقه وخرج هائما ومات جوعا… أنا أريده أن يتعلم صناعة يدوية. أخرجه في جولة بالبلاد ليختر الصناعة اليدوية التي تعجبه ويتعلمها.”
سمعا وطاعة يا مولاي. أَخرجوا الولد في جولة في البلاد، فتجول في سوق بائعي النعال العتيقة، سوق بائعي الشاشية، سوق العطور، سوق الثياب والأقمشة التركية، وسوق الذهب… ثمّ وقف الولد أمام حانوت جواهريّ ولم يتحرّك من هناك، وقال:”أريد أن أتعلم هذه الصناعة”.
فبقي يتعلم تلك الصناعة وكان كل يوم يتعلم شيئا جديدا إلى أن أتقن تلك المهنة. وفي يوم من الأيام أراد أحد السلاطين المتعاهدين مع أبيه أن يزوّج ابنته. فقرر السلطان أن يقدم له هدية مهمّة ويرسل ابنه من أجل أن يوصلها له، فركب الابن مع فرسانه وقافلته التي تحمل الهدية.
وصلوا إلى بلد ذلك السلطان وحضروا حفل الزفاف وبقوا مدة ثم بعد ذلك انطلقوا في رحلة العودة. وبينما اقترب الابن ليدخل البلاد فإذا بحاجب من حجاب أبيه يعترضه حافي القدمين وعاري الرأس ويقول له:”أين أنت ذاهب يا سيدي؟ ألم تسمع بأنّ أحد الأمراء قام بانقلاب ضدّ أبيك وقتله وقتل كل جماعته وأصبح يحكم مكانه؟ إنّي بالكاد تمكّنت من إنقاذ نفسي. فاحذر دخول البلاد لأنه سيلقي عليك القبض ويقتلك. وما إن سمع الفرسان الذين كانوا صحبة الأمير الخبر حتى بدؤوا يتخلون عنه واحدا تلو الآخر وذهبوا يتسابقون إلى الملك الجديد من أجل مبايعته وتقديم الولاء والطاعة له، فالعالَم لا يعترف إلاّ بالأقوياء.
التفت الولد يمينا ويسارا فوجد نفسه وحيدا، فحتى من أتى ليحذره قد هرب بدوره. عاد الأمير أدراجه، ومشى هائما لا يعرف أين سيذهب… فسار وسار إلى أن وصل المرفأ وهناك وجد مركبا راسيا، ولم يكن يملك حتى ثمن الركوب، فقال لأصحاب القارب:”هل تقبلون بأن تسمحوا لي بالركوب مقابل أن أخدمكم أيّ خدمة ترغبونها؟ يمكنني أن أساعدكم على التجديف، الطهي، غسل الملابس، أو على أيّ شيء آخر..”، فقال أحدهم :”حسنا، خذوه معنا.”
نفخت الرياح في القلاع، وخرجت تلك السفينة، وبعد مدّة وصلت إلى إسطنبول. نزل الولد وودّعهم متمنيا لهم السلام ثم شرع يجول أنهج البلاد من نهج إلى آخر حتى وصل سوق مجوهرات تلك البلاد، وتوقف أمام واجهة المحل ليشاهد قطع المجوهرات ويتثبت منها، وكان يبتعد تارة ويقترب طورا، وكان ينحني أحيانا ويغمض عينا ويفتح عينا أخرى ليتثبت جيدا. وكان صاحب المحل يراقبه من داخل المحل قائلا في نفسه:” إمّا أن يكون هذا الولد لصّا يحاول اختيار المجوهرات التي سيسرقها عندما يعود ليلا أو أنه حرفيّ.
-“يا بني، هل أنت بخير؟ هل أضعت شيئا؟
-قال له :”لا يا سيدي، إني أكتفي بالمشاهدة”، فقال له:
-“هل أنت صاحب معرفة بهذه الصناعة؟”
– قال له:” نعم، إلى حدٍّ ما”،
-“هل تريد أن تعمل معي؟”
-“إن كنت تريد مساعدتي فأنا أقبل ذلك.”
أدخله ليعمل معه وقال له: “سأدفع لك ريالا في اليوم الواحد كما أني سأحضر لك فطورك وعشاءك من المنزل، وهاهو سرير في حُجرة الحانوت يمكنك أن تنام عليه خلال الليل”.
وبقي ذلك الولد يعمل، وكان يجني ريالا كل يوم ثم يذهب إلى المنزل ليأتي بالعشاء. بقي الولد على تلك الحالة مدّة تتراوح بين 6و7 أشهر. كان يتحصل على ريال كل يوم، أمّا العشاء فهو يكون دائما إمّا طبق محمص أو طبق برغل أو طبق عجّة، ولم يُقدَّم له أبدا طعاما أو عشاءً فيه لحم مجفّف أو قطعة سمك.
كان لملك تلك البلاد بنت وكان الملك يعدُّ لها مهر الزواج، وقد قُدِّم للملك سوار من الألماس، وكان ذلك السوار مصنوعا بكيفية رائعة، وكان الملك وحاشيته متعجبين من كيفية صنعه وأخذوا يمرّرون لبعضهم البعض ذلك السوار ويتفحصونه واحدا تلو الآخر، وفجأة سقط السوار وانكسر إلى نصفين. بكت الطفلة وتعرّق الملك غضبا وفُزع الناس. قال الوزير:”يا سيدي، إنها ليست بمشكلة كبيرة؟ سأرسل هذا السوار إلى الأمين ليصلحها.”
فأرسلوا إلى الأمين، وكان الأمين هو نفس ذلك الشخص الذي يشغّل الولد. جاء الأمين فقال له الوزير:” هل تستطيع أن تصلح هذا السوار؟” أخذ الأمين السوار من عنده وبدأ يتفحصه من كلّ جانب وأخذ يحدّق فيه جيدا، ولكنه لم يفهم أيّ شيء على الإطلاق عن كيفية صنع ذلك السوار…وشعر بالحيرة، فماذا عساه يقول للملك؟ أيقول أنه لا يعرف؟ قال له :”يا سيدي، أجل، لما لا. أمهلني وقتا حتى آخذ مقاييسه ثم سأقول لك ما الذي يتوجب القيام به”.
وصل الأمين إلى الحانوت وكان وجهه مصفرا مثل الليمونة وقد شعر بالوهن والعجز. رآه الولد على تلك الحالة فقال له:
-“ما بك يا سيدي؟ هل أنت بخير؟ هل أنت مريض؟”، فقال له:
-“انظر ماذا أعطاني إياه الملك حتى أصلحه.. إنّ مثل هذه الصناعة غير موجودة في بلدنا، فكيف لي أن أعرفها؟ أنا لا أعرف هذه المجوهرات”.
-“يا سيدي، أنا أعرفها، إنّ هذه صناعة بلادي، ولقد صنعت مثلها في السابق. اعطني إياها وسأصلحها لك”، قال له:
-ما الذي تقوله؟ أأنت قادر على إصلاحها؟
-“أنا أصلحها. اعطني إياها واطمئن”. فتركها له وعاد إلى المنزل. أغلق الولد الحانوت وسهر الليل كلّه وهو يعمل.
وفي الصباح جاء السيد فقال له الولد:”هذا هو السوار يا سيّدي.” أخذ السيد السوار وكاد يموت من شدّة الفرح، تفحّص السوار من هنا ومن هناك، ولم يعرف حتى من أين كان مكسورا ومن أين أصلِح. وفي الحين وضع السيد السوار في كيس وذهب إلى القصر وقدّمه إلى الملك. أخذ الملك يتفحص السوار مرارا وتكرارا، أخذه معه إلى النافذة وحدّق به في الضوء، وأتى بالمرآة المكبّرة فلم يجد ولا مكانا فيه آثار لإصلاح أو لحام ولا أيّ شيء. قال له:”أحسنت، أحسنت صنعا، أنت فعلا أمين وسيّد الأمانة، لم أجد ولا خدشا واحدا ولا أثرا واحدا من آثار الإصلاح أو اللحام، وأذن لمسؤول الخزنة بأن يجازيه بكيس فيه خمس مائة دينار. ولكنّ السيد لم يعطي الولد أيّ شيء. لم يعطيه حتى فطورا باللحم أو حتى القليل من السمك، أو حتى دينارا واحدا من تلك الخمس مائة دينار، لقد كان الفطور طبق شكشوكة وكان العشاء طبق محمّصة وكان الأجر ريالا ككل يوم.
أخذت ابنة الملك سوارها وفرحت به وأخذت توريه إلى الجواري وإلى مرافقاتها. فقالت لها إحداهنّ: “يا مولاتي، لماذا لديك سوار في إحدى يديك بينما لا يوجد سوار آخر في يدك الثانية؟ لماذا لا يكون لك سوارين؟، فقالت :”أجل، لقد صدقتي” وفي حينها ذهبت تجري إلى أبيها وقالت له:
-“يا أبي إني أريد سورا آخر مثل هذا.”
-“سوار مثله؟ كيف ذلك يا ابنتي؟ إنّ هذا السوار مصنوع في بلد آخر”، فقالت له:
-“هل يكون من أصلحه غير قادر على صناعة مثله؟، قال:
-“أجل، ما تقولينه صواب، فأرسل إلى الأمين حتى يأتي. قال له:
-“إني أريد سوارا آخر مثل هذا.” فصُدم الرجل وقال في نفسه: “لقد وقعتُ هذه المرة، فمن أين لمساعدي القدرة على صناعة شيء مثل هذا؟..لكن سنرى على كل حال”، وذهب للولد وقال له:
-“يا بني، لقد وقعتُ في مأزق وليس لي سواك حتى تنقذني.. هل تستطيع أن تصنع سوارا مثل هذا؟”، فقال له:
-“أجل يا سيدي، إنني أحتاج إلى أسبوع من العمل”، قال له:
-“خذ حتى شهرا إن لزم الأمر، المهم أن تنجز سورا مثله.”
بعد مضي شهر، صُنع السوار وأحضر للملك، فقام الملك من على كرسيه وقبّل الأمين ووسّمه وأهدى له مركبة خيول وأمر الحراس بأن يؤدوا التحية العسكرية للأمين في كل مرّة يأتي فيها. أمّا الولد فقد بقي دون علم بما يحدث وكان دائما يعاني من كثرة تناول أطباق الشكشوكة وأطباق المحمصة وكانت أجرته دائما ريال واحد.
شعرت الملكة بالغيرة من ابنتها وقالت: “ألم أعد مصدر اهتمام، ألم يعد لي جمال أظهره؟ أنا أيضا أريد سوارين مثل هذين”. عندما تكون المرأة مصمّمة كلّ التصميم فما على الرّجل إلاّ الطاعة. أطاع الملك كلامها وبعث ينادي للأمين وقال له: “أريدك أن تصنع لي سوارين آخرين مثل هذين”. فذهب السيد إلى مساعده وقال له:
-“يا بني، لقد أكثرت عليك بالطلبات ولكنك على كلّ حال مثل ابني، اصنع لي اثنين آخرين مثل هذين”. أومأ الولد برأسه وقال:
-“حاضر يا سيدي”، ثم صنع سوارين وسلمهما إلى سيده فذهب مسرعا إلى الملك حتى يجازيه، ففعل الملك ذلك وأرسل السّوارين إلى الملكة التي كادت تموت من شدّة الفرح. وبما أنّ النساء يتفحّصن الأشياء ويتثبّتن أكثر من الرجال، فقد بقيت الملكة تتفحص السوارين وتتثبت، فوجدت كتابة صغيرة جدا منقوشة في الداخل وبالكاد يمكن رؤيتها فقالت: “اعطوني عدسة مكبّرة”، فأحضروا لها مرآة. فماذا وجدت يا ترى؟ لقد وجدت كتابة تقول “مصائب الدهر كفى، إن لم تكفي فعفى. خرجت أطلب رزقي، وجدت رزقي متوفي. فلا برزقي أحظى ولا بصنعة كفّي، كم جاهل في الثريّا وعالم متخفي”.
ذهبت تجري إلى الملك وقالت له:” ما معنى هذه الكتابة؟ ما الذي كتبه هذا السيد الذي جئتنا به؟” أخذ الملك المرآة، قرأها، وقال:
-“هل الأمين يكتب في هذا الشيء؟ ما المقصود بهذا؟ ألا يستفيد من ذكائه؟ ألا يأخذ من نقوده من عندي؟ ألم أعطيه وساما وعربة؟ أرسلوا من يأتي به إليّ.” فأحضروه.
-“ما الذي تقصده أيها الأمين من خلال هذه الكتابة؟ لكنّ الأمين لم يرى تلك الكتابة ولم يتفطّن إليها ولم يعرفها، فوقف محبطا لا يعرف ما يقوله. فكّر وفكّر، ثم قال:
“يا سيدي”،
-قال له:”تكلّم”،
-قال: “يا سيدي، إذا كان الكذب ينجّي فإنّ قول الحق ينجّي أكثر. في حقيقة الأمر ليست لدي علاقة بهذه الصناعة، وأنا لا أعرف شيئا عنها. إنّ لي مساعدا أجنبيّا أتى من مكان أجهله، وهذا المساعد هو الذي يقوم بهذا العمل وهو الذي أصلح السوار الأول وصنع الثاني وثم صنع السوارين الآخرين”
-قال له: “إذاً هو الذي يستحق أن يكون أمينا وليس أنت”. ثم أتى الملك بالولد وعيّنه أمينا وأعطاه وسام سيّده وعربته وجعله من جلّاسه. وبينما هم ساهرون في أحد الليالي، تذكر الملك مسألة الأساور وقال له:
-“قل لي، ما الذي قصدته بتلك الكتابة وقتها؟ قال له:”يا سيدي، أنا ابن ذلك السلطان المسمّى…”،
-قال له: “أجل إني أعرفه، لقد أقاموا عليه انقلابا وقتلوه”، قال له: ” أنا ابنه.. وفي تلك الفترة كنت غائبا ولما عدت وجدت أنّ كلّ شيء قد حصل وانتهى”. ففرح به الملك وزوّجه ابنته ومنحه النفوذ والجاه. وكما يقول المثل: “ينتهي مال الأجداد وتبقى صناعة اليدين.”