يقال إنه لا يمكن لأحد أن يفهم شخصًا أخرسًا باستثناء والدته، وكذلك هو الحال بالنسبة للشخص المجنون، فهو لا يمكن أن يتعايش إلا مع شخص مجنون مثله. لا يستطيع الشخص السليم التعايش مع رجل مجنون، ولكن يمكن لشخصين مجنونين الانسجام.
قبل بضع سنوات، هرب رجل مجنون من مصح عقلي أين يتم تجميع الأشخاص المجانين الذين يتسببون في الكثير من الفوضى والعنف والاقتتال، كما كان أحيانا يتم ربطهم وتقييدهم للتحكم في أفعالهم الغير متوقعة.
وذات يوم تسلل أحد المجانين في غفلة من الحراس ووصل إلى الباب ثم أفلت. بدأ المجنون يركض في الشارع فصاح الناس: “رجل مجنون هرب من مصح عقلي!” هلع الجميع وهربوا خوفًا من التعرض للأذى. كان المجنون يشبه أسدًا وحشيا قد خرج من قفص، وكان شعره غزيرا حيث أنه لم يحلقه أبدا.
وصل الخبر إلى بربار فحمل سوطه وأخذ يجري وراء المجنون. لقد كان بربار معروفا في عصره، فقبل حوالي 50 عاما كان يُعرف بأنّه الشخص الذي يحرس المجانين. صاح بربار: “أمسكوه، أمسكوه، لكن ذلك كان بدون أيّ فائدة لأنّ الناس كانوا كلّما رأوا المجنون إلاّ وهربوا أو التصقوا بالحائط، فالكلّ كان يحاول إنقاذ نفسه.
ركض ذلك المجنون حتى وصل إلى مسجد القصبة، وقد كان يتواجد هناك رجل مع ابنه الصغير، لقد كان الأب قد اشترى له قبّعة وقد كانا في طريقهما إلى المنزل. كان الصبي يبلغ من العمر حوالي عامين أو عامين ونصف وكان مازال لم يتمكن بعد من التحكم في خطواته، لذلك فإنّ والده كان يمسكه بيديه حتى لا يسقط. عندما شعر المجنون أنه لا يوجد مخرج وبأنّ بربار قد اقترب منه اختطف الطفل ودخل المسجد.
كان باب الصومعة مفتوحا، فدخل وشرع في صعود الدرج. تجمّع الناس ووصل بربار حاملا سوطه. أما الأب فقد كان مذعورا وفي حالة إحباط. حاول أحد الناس المساعدة فصعد الصومعة حتى يلحق بالمجنون، ولكن عندما سمع المجنون الخطوات التي تلاحقه زاد في سرعته حتّى وصل أعلى الصومعة ثمّ أطلّ من النافذة وأخرج الولد وقال: “إذا اقتربتم مني فإني سوف أرمي الطفل من الشباك”، وإن رُمي الولد من نافذة الصومعة فإنه لن يصل إلى الأرض إلا أشلاءً.
ظلّ الجميع في حيرة وتساءلوا عمّا سيفعلون. اقترح أحدهم إحضار سلّم معهم، فقال له الآخرون: “لكن إذا وضعت السلم على الصومعة فإنه سيرمي الطفل”. اقترح شخص آخر بسْط شبكة، فقال له الآخرون : “ولكن إن وضعنا شبكة من هذه الجهة فإنّه سيرمي الولد من الجهة الأخرى.” عبّر كل الحاضرين عن أفكارهم، ولكن تبيّن أن كلّ تلك الأفكار غير مجدية، فتركوا الأمر لله. وصل الخبر إلى أمّ الولد فجاءت وكانت تشعر بالدّوار من هول الصدمة.
وفي تلك الأثناء جاء بربار الذي كان يقضي كامل وقته مع المجانين وأصبح يفهم أمورهم، فقال للناس: “انتظروا، لا أريد من أحد أن يقترب منه أو يتكلّم معه، دعوني أتدبّر الأمر بمفردي.”
عاد بربار إلى المصح العقلي وذهب إلى أحد المجانين، وحلّ قيوده ثمّ أخرجه معه.
قال بربار: “اسمع، أنا أعلم أنك عاقل وأنا أشهد لك برجاحة عقلك.”
قال المجنون: “أجل يا عم بربار.”
قال بربار: “حسنا، أنا أعلم أنّك مظلوم ولكن ما باليد حيلة يا بني؟ ها إنّي أحاول تحسين حياتك، وسأرى كيف يمكنني تحريرك.. لكن هل رأيت ما فعله فلان؟ لقد أتعبنا اليوم وهرب وأمسك صبيا معه وأخذه إلى الصومعة وقال أنّه يريد أن يرميه من هناك. إنّه مجرّد طفل صغير وبريء، ما ذنبه؟ اسمع يا رجل، أعلم أنك تستطيع إيجاد حلّ لهذه المشكلة. أرجوك أن ترجع هذا الرجل إلى صوابه وتنقذ الطفل من الموت.”
قال المجنون: “لا تقلق، أنت تعرف أنّي أملك الحل.”
عندما دخلا المسجد ووصلا تحت الصومعة، رفع المجنون رأسه فرأى صديقه وقال له:
“آه منك يا ناكر الجميل، لماذا ذهبت وتركتنا وحيدين؟ كيف يمكنك ترك الجميع؟ كيف تترك أصدقاءك الذين تحبّهم وتلعب معهم، كيف تترك الأشخاص الذين يعجبونك… كيف لا تهتم بنا وتتركنا وحيدين؟ كيف سنقضي السهرة بدونك؟ وكيف ستكون أمسياتنا ومحادثاتنا الصباحية التي اعتدنا عليها؟ … هيا، توقف عن هذا الغباء ودعنا نعود إلى الجماعة “.
-“ابقى بعيدا وإلا فإنّي سأرمي الطفل على الأرض.”
لقد كان المجنون مصرّا على رأيه حتى أنه لم يرغب في الاستماع إلى صديقه. قال المجنون الآخر لبربار: “اترك الأمر على حاله، اسكتوا أيها الناس، لا تقلقوه ولا تقولوا له أيّ شيء ، تعال معي يا عم بربار”.
ثم غادرا المسجد، وكان المجنون ينظر إلى كلّ حانوت يمرّان بها، فهذه حانوت دبّاغ وهذه حانوت عطار والأخرى حانوت حلاّق إلى أن وصلا إلى حانوت المسمّى شريف الزرببي، حيث يمكنك العثور على الصور والمناخل والمناشير، وما إلى ذلك.
-“السلام عليكم!”
-“وعليكم السلام!”
قال المجنون “هل يمكنك أن تسدي لنا معروف من فضلك وتعيرني المنشار لمدة دقيقة واحدة؟”
-“كيف ذلك؟ هذه هي أداتي التي أعمل بها، هذا لا يبدو منطقيا يا ولدي. لا أستطيع أن أعطيك أدواتي! “
” قدّم لي معروفاً أرجوك، أعرني المنشار لمدّة دقيقة واحدة فقط.”
تكلّم العم بربار وقال: “أنا أضمن لك ذلك، لا تقلق سأعيده لك بنفسي.”
ثم أخذ صديق المجنون المنشار وعاد إلى المسجد صحبة بربار، ثمّ ذهب على الفور إلى الصومعة ووجّه المنشار نحو الحائط وكأنّه سيقوم بقطعه.
نظر المجنون الآخر من خلال النافذة ورأى صديقه يدخل حتى وصل إلى الصومعة وقد جذب منشاره لقطع الحائط فقال له:
” ماذا؟ ماذا ستفعل؟ “
-“سأقطع على كل شيء من جذوره.”
-“ماذا؟ هل ترضى الموت لأخيك؟ “
-“حسنا إذا، يجدر بك أن تنزل وأن تعيد الطفل إلى والديه، وإلا فإنني سوف أسقط الصومعة بأكملها.”
-“حسنا، لا تفعل أي شيء، سوف أنزل “.
ثم نزل المجنون معتذرا وأعاد الطفل إلى والدته ووالده وسار في طريقه إلى المصح العقلي جنباً إلى جنب مع صديقه بينما كان بربار يمشي وراءهما حاملا سوطه.