يُحكى أنّ تاجرا كان بارعا في تجارته الناجحة بتوفيق من الله، كان ذلك التاجر ما إن اشترى بضاعة إلاّ وربح فيها وما إن باع بضاعة إلاّ ونال منها ربحا وفيرا، لقد كان وافر الحظّ في كلّ ما تطاله يداه إلى درجة أنّ الحسد قد نال من تجّار السّوق الذين ضاقوا من ربحه ذرعا، فكادوا له عند شهبندر التجّار الذي صار يضايقه. فجمع التاجر رزقه وباع كلّ شيء بنصف ثمنه ورافق زوجته وابنه وغادروا متوكّلين على الله إلى بلاد أخرى. استقرّ في بلاد لا يعرفه فيها أحد، واشترى منزلا سكنه صحبة زوجته وابنه. فتح حانوتا وكان بارعا في فنّ التجارة وذا حظّ وافر ممّا حسّن ظروفه فاشترى حانوتا ثانيا وثالثا، وحقق نجاحا باهرا حتى أصبحت تجارته تسير في قوافل إلى السودان وفي بواخر نحو الاسكندريّة، فازداد ثراؤه حتى بلغ أقصاه.
لكنّ الغريب في تلك البلاد يظلّ غريبا، فمن لا نسب له في تلك البلاد يظلّ غريبا ويتحاشاه النّاس.
ماتت زوجته فظلّ على العهد معها بعد مماتها ولم يتزوج ثانية وعاش مع ابنه، ولأنّ الناس لا يعرفونه فإنه لن يجد من يعرف قيمته.
ظلّ التاجر صحبة ابنه حتى كبر وترعرع شابّا بين رفاقه من أبناء الوجهاء، حتى بلغ سنّ الزواج فطلب من أبيه تزويجه.
– ” ابنة من ستكون زوجتك؟ من يعرف قيمتنا في هذه البلاد؟ لو كنّا في بلادنا لكنتُ اخترت لك أحسنهنّ وأعرقهنّ أصلا، أمّا هنا، فمن سيزوّجنا ابنته؟”
– ” لي صديق ذو نسب له أخت أرغب في الزواج منها.”
– ” السيّد فلان؟ هل نقدر عليه؟ أيعرف قيمتنا ويزوّجنا ابنته؟”، صمت كلاهما لكنّ الولد انقطع عن الأكل والشرب، وكانت حالته تسوء يوما بعد يوم فخشي الأب على ما قد يلحقه ابنه من ضرر في سبيل حبّه للفتاة فذهب ليخطبها من أبيها.
فسأله أب الفتاة: ” ما نسبكَ؟”
-” أنا فلان من أعيان تلك البلاد”.
-” ما ممتلكاتكَ؟”
-” لي الكثير من الخيرات.”
فأدرك أب الفتاة أنه لا يمتلك عشر ما يمتلك التاجر.
-” وما حرفة ابنك؟”
-” إنّه ابني ووريثي.”
-” لا يكفي أن يكون ابنك، فكما يقول المثل “تنتهي أموال الأجداد وّلا تبقى إلاّ صناعة الأيادي”، ألم يتعلّم صناعة ؟ صناعة الشاشية مثلا أو المجوهرات أو الحرير؟
-” لا، لم أعلّمه أيّ صناعة لأنه وريثي بعد مماتي.”
-” لكنّه قد لا يحسن التصرّف في أمواله ويفنى ماله فأضطرّ أنا لرعايته هو وزوجته وأبناءه “
-” لا يُعقل أن نتنبّأ بالإفلاس والهموم والمصائب،، إن فكّر الجميع بهذه الكيفية فلن يتزوّج أحد بعد الآن وسيُبقي كلّ شخص ابنته في بيته، هذا لا يُعقل !”
-” لأزوّجه ابنتي يجب عليكَ أن تهب له كلّ رزقكَ”
-” كلّ رزقي؟ لمَاذا؟ ولكني كنت سأفعل من أجله ما يفعل جميع الآباء، أوفّر له رأس مال وأفتح له دكّانا وابتاع له منزلا وأؤثثه له ولزوجته”
-” لا، عليكَ أن تعطيه كلّ أرزاقكَ”
فكّر ذلك الشيخ قليلا ثمّ قال : ” لن أخسر شيئا، إن كانت أرزاقي عندي أو عند ابني فهذا لن يغيّر شيئا إني سأترك له كل أملاكي بعد موتي في كل الأحوال، لن أخذل آبني”.
وكتب كلّ أرزقه لابنه ولم يبقي لنفسه شيئا. وكما يقول المثل “من يهب رزقه في حياته لن يغيثه أحد”،
ولأنّ العروس كانت بنت كبار الناس بينما كان زوجها غريبا فإنها كانت لا تحسب له حسابا. ظنّا منها أنّها تكرّمت عليه بزواجها منه، كانت تتحكّم في كلّ تصرّفاته وكان ذليلا لا يعارضها في شيء، أما حموها فقد كانت تستخف به وتقلل من شأنه وسرعان ما بدأت تضجر منه وتتضايق، فبعد أن كانت تجمعهما نفس المائدة، أصبحت تعايره بوساخته وعدم إتقانه لآداب الطعام، وقالت أنه يسدّ عليها شهيّة الأكل فوضعوه وحيدا، وبدؤوا كلّ مرّة ينقلونه من بيت إلى بيت حتى أصبح يسكن في بيت حذو الإسطبل. فقد كان ابنه صيّادا يمتلك حصانا يضعه في الإسطبل. وصار الخدم ينقلون طعام الشيخ إلى ذلك المكان، وكان الشيخ لا يفعل شيئا سوى قضاء كامل اليوم حذو حصان أحسن منه حالا، فقد كان ذلك الحصان مُغطّاً بلحاف وكلّما صار ذلك اللحاف قديما كانوا يستبدلونه له بلحاف جديدٍ.
حملت زوجته وأنجبت له ولدا.
كبر ذلك الولد حتى بلغ 10 أو 12 سنة، وكانت زوجة ابنه تزداد كرها لحموها حتى ما عادت تحتمل رؤيته رغم أنه صار خارج البيت الذي ما عاد يطؤه ، فما عادت ترغب في وجوده حتى حذو الاسطبل، إذ كانت تخجل عند زيارة الناس للبيت ومشاهدتهم لذلك الشيخ والاسطبل والحصان طارحين عليها السؤال التالي: “من هو ذلك الشيخ؟”
-“إنّه حموي”
حتى أتت زوجها يوما قائلة: ” ما عدت أرغب في وجود أبيك في المنزل.”
– ” ما العمل إذاً؟ “
– ” اطرده “
– ” سمعا وطاعة”
ولأنّه كان طيّعا لأمرها خاضعا ذليلا لها، قصد أباه قائلا:
– “أنا متأسّف يا أبي، لن تبقى في هذا المنزل بعد الآن “
– ” لماذا ؟”
– ” فلتغادر ! “
– ” كيف أغادر وأنا صاحب كل هذه الأملاك؟”
– ” الأمر لله”
– ” كيف سأحيا؟”
– ” في البلاد آلاف مثلك أحياء، لست وحدك في هذا الظرف”
– ” طيّب، هبني بعض المال لأقتات”
– ” لا أستطيع” (لأنّ الأمر والنهي بيد زوجته)
– ” دعني على الأقل أنام في الأرضيّة المغطات الموجودة أمام المنزل “
– ” لك ذلك !”
– ” لكني بحاجة إلى غطاء، فأنا سأنام في الشارع وبرد الشتاء قارص. هبني ولو غطاءً .
– ” من أين لي بذلك ، لا أقدر على مدّك بغطاء من بيتي ، زوجتي لا تقبل بذلك”.
– “ألم تشتري للحصان غطاءً جديدا؟ حسنا هبني القديم إذاً”
– ” هذا ممكن !”
فنادى ابنه وأمره بالذهاب إلى الإسطبل وجلب غطاء الحصان القديم لجدّه. دخل الولد إلى الإسطبل وتبعه جدّه، أخذ الابن الغطاء ثمّ طلب من جدّه الانتظار، دخل إلى الدار راكضا، وعاد يحمل سكّينا ، طوى الغطاء وقسمه إلى جزأين وسلّم جدّه نصفها.
سأله جدّه :
– ” لماذا قطعتها؟”
– ” قطعتها وانتهى الأمر !”
– ” عجبا، ألم يأمرك أبوك بأن تسلّمها لي كاملة؟”
– ” لا، لن أسلّمك سوى نصفها”
– ” هذا الولد أكثر شؤما من أبيه !”
ثمّ ركض الشيخ صوب ابنه وقال:
– ” وهبتني الغطاء لكنّ ابنك اقتطع لي نصفها”
فقال آبنه :” عجبا”
ثمّ نادى ابنه وسأله :
– ” لماذا قطعتها؟ وما أنت فاعل بنصفها الثاني؟ “
– ” سأحتفظ به لك يا أبي”
– ” لي ؟”
– ” نعم، حين تصبح مثل جدّي سأطردكَ”
– ” ماذا ؟ تطردني؟ هذا ما تفكّر فيه؟”
ثمّ استلقى أرضا مقبّلا رِجل أبيه باكيا :
– ” أبي فلتغفر لي !”
ثمّ دخل المنزل راكضا، واختار أحسن غرفة في البيت قائلا:
– ” هذه الغرفة لأبي ومن لم يعجبه ذلك فليغادر المنزل !”