يروى أنه كان هناك حطاب لديه العديد من الأطفال، وقد كان يعاني حرّ صيفا وقسوة الشتاء إذ كان يقضي طول النهار في التحطيب من أجل أن يعود ببعض الحطب ليبيعه لإطعام عائلته، وقد كانت عائلته تعيش على ذلك القوت اليومي، و قد كانت حياتهم قاسية فاليوم الذي لا يعمل فيه الحطاب كان يكلّفهم الجوع.
وفي أحد الأيام ذهب حزينًا إلى عجوز حكيم يعيش في مكان قريب وسأله: “قل لي لماذا لا يتساوى كل الناس بالرغم من أنهم كلهم من خلق الله؟ فالبعض منهم ثري ومزدهر، وبعضهم يتمتعون بالسلطة، بينما أنا على هذه الحالة، انظر إلى وضعي. قل لي ما الذنب الذي ارتكبته بالله عليك؟ هل هذا عدل وانصاف؟ أنت رجل حكمة، فمن فضلك قل لي من هو الشخص الذي يقسّم الأرزاق؟ “
رد الرجل العجوز: “ألا تعلم أن الله هو الذي خلقك وخلق الناس جميعا وحدد لكل شخص رزقه؟”.
وقبل أن ينهي العجوز كلامه، أدار الحطاب ظهره وشرع في مغادرة المكان دون أن يودعه.
قال له الرجل العجوز: “تعال، لدي ما أقوله لك”.
قال الحطاب “لا، لا داعي لذلك، أجاب الآخر. كل شيء أصبح واضحا، لقد عرفتُه وها أنا ذاهب إليه.” يبدو أن الفقر والاحتياج والجوع أثّروا على الحطاب الذي بدا وكأنّه بدأ يفقد عقله.
خرج الحطاب من البلاد على قدميه وسلك طريقه خطوة تلو الأخرى حتى أرسل إليه الله إليه ملكا من السماء فسأله: “إلى أين أنت ذاهب يا بني؟”.
قال الحطاب: “أنا في طريقي إلى من يقسّم الأرزاق، أريد أن أفهم لماذا تركني على هذه الحالة ولم يتذكّرني؟”
سأله الملك: “هل تريد أن أدلّك على الطريق إليه؟”
أجاب الحطاب: “إن كنتَ فعلا ترغب تريد أن تساعدنى فلتفعل ذلك.”
قال الملك:”اسلك هذا الطريق، ولكن كن حذرًا، يجب أن تلتزم الصمت إزاء ما يصادفك في الطريق، عليك الإكتفاء بالمشاهدة فقط.”
ودّع الحطاب الملك وواصل رحلته، وبعد نصف ساعة من السير حتى رأى امرأة بدويّة تفترش شبكة على الأرض وتعبّيها حطبا. إن وظيفة الحطاب هي التي جعته يقف ليشاهدها، فمن المعروف أنّ صانع الأحذية سينظر إلى حذائك، والحلاق سينظر إلى قصّة شعرك ليعرف إن كانت جيّدة أم لا، ونفس الشيء مع الخياط.
بعد أن عبّت المرأة البدوية شبكتها بالحطب وربطتها أرادت أن تحملها على ظهرها لكنها لم تستطع، فكلّما حاولت رفعها إلاّ وسقطت، حاولت وحاولت لكنها لم تقدر، ففتحتها. اعتقد الحطاب أنها ستنقص من كمية الحطب، ولكن المرأة بدأت تكدّس في حطب جديد فوق الحطب الأوّل. فقال الحطاب: “ما هذا؟ إنّها لم تقدر عليها، ولكنها عوض أن تنقص منها زادت إليها حطبا أكثر! “
وقامت مرة أخرى بربطها وحاولت حملها فسقطت هي وإيّاها، ففتحتها مجددا، وفي هذه المرة اعتقد الحطاب أنها ستقلل من الحطب لكنها ذهبت باحثة عن حطب آخر وكدّسته مع الحطب الآخر حتّى صارت كومة الحطب جبلًا. أرادت ربط حبلها لكنه لم يعد كافيا، لذلك خلعت محزمتها وغطاء رأسها وربطتهما مع الحبل، ثمّ حاولت أن ترفع كلّ الحطب، ولكنها لم تستطع حتى تحريكه
. قال لها الحطاب: ” يا سيدتي، ما بك تزيدين الحطب عوضا من انقاصه؟ كيف ستحملينه كله؟ “.
وما ان أتم الحطاب قول هذه الجملة إلاّ واختفت المرأة وكذلك اختفى الحطب كما اختفى كلّ شيء. لم يبق شيء سوى الملك الذي أراه الطريق وقد بقي واقفا.
قال الملك: “ألم أطلب منك ألا تقول أي شيء؟”
-“سامحني، لكنه لم يعد باستطاعتي تحمّل ذلك، هذا أمر مزعج، لقد أردت أن أنصح هذه العجوز. أنا متأسّف يا سيّدي، لن أتكلّم مرّة أخرى.”
-“حسنا، اذهب في حال سبيلك.”
مشى الحطاب مدّة ساعة وإذ به يرى صيادًا يحمل بندقيته ويركض ويقفز ويلهث وكان العرق يتصبّب عليه، وكانت أرنب تركض أمامه وكان هو يركض خلفها، وكان أسد يجري وراءه دون أن يتفطن له، لقد كان الأسد يقترب منه ولقد كان على وشك الانقضاض عليه وقد فتح فمه. وفجأة صاح الحطاب محذرا الصياد: “أركض! اهرب! يوجد أسد وراءك.”
وفجأة اختفى كل من الأرنب والصياد والأسد، ولم يبقى إلاّ شيء باستثناء الملك الذي بقي واقفا أمام الحطاب.
قال الملك: “لن تفهم أنّه عليك أن لا تتكلّم أبدا ؟ “
-“حسنًا، لكني لم أرتكب أي ذنب. لقد كاد الأسد أن يلتهم الرجل، ألم يكن من الواجب أن أحذره؟
-“حسنا، افعل ما تريد. سأذهب في طريقي “.
-“لا يا سيدي، أرجوك سامحني. لن أفعل هذا مرة أخرى. سوف أغلق فمي “.
أجاب الملك: “حسنا، إذهب”.
واصل الحطاب في طريقه إلى أن دخل بلدة وأخذ يسير في شوارعها وأسواقها فوصل إلى سوق اللحوم. هناك رأى جزارًا معلّقًا حملانا، وقد كان اللحم رائعا وورديّ اللون، ولكن لم يكن لذلك الجزار أيّ زبائن، وقد كان يعاني من الملل والإحباط.
وبعد أن تقدّم الحطاب خطوة أخرى رأى حشداً من الناس يصرخون ويتدافعون، وقد كان هناك عراك وخصام ممّا أدّى إلى الكثير من الفوضى. أراد الجزّار أن يفهم سبب كل هذا التزاحم، فتسلّل بصعوبة بين الأرجل، فماذا وجد يا ترى؟ لقد وجد أنّهم يتزاحمون من أجل الوصول إلى حانوت جزّار آخر على الرغم من أن اللحم الذي يبيعه كان متعفنًا وفاسدًا ورائحته الكريهة في كل مكان، الا أن الناس كانوا متلهفين للحصول عليه. أراد أحدهم خمسمائة جرام، والآخر أرادا كيلوجراما، والكل كان يريد أكثر من غيره.
تراجع الحطاب إلى الوراء وبدأ يدفع الناس بظهره إلى أن تمكّن من التسلل والخروج من بين الحشود ثمّ اتكأ على الحائط ليشاهد بدهشة هذه المدينة وشعبها وعاداتها، وتساءل قائلا: “ما الذي يحدث في هذه المدينة؟” فجأة رأى شخصًا محترما يرتدي ملابسا جيدة وفخمة وجُبّة وعمامة مطرّزة، وسلسلة وساعة من الذهب. كان مسرعا ويبدو عليه القلق كما لو أنّه كان يفتقد شيئًا مهمًا حقًا. وصل إلى الحشد وبدأ يتدافع بين الناس حتى وصل إلى الداخل. شعر الحطاب بالأسف عليه فبدأ يسحب الرّجل ويقول له : “يا أخي، أنت تبدو شخصا محترما ومن عائلة عريقة كما أنّك تبدو نظيفا ومثقفا، فكيف ستسمح لهم بمهاجمتك وتمزيق ملابسك مقابل لحوم نتنة لا تأكلها الكلاب؟ تعال ودعني أريك أفضل لحوم، انظروا إلى اللحم الرّفيع الموجود هناك، تعال وانظر كم هو رائع!” وبينما كان لا يزال يتحدث اختفى كل شيء فجأة، اختفت المدينة واختفى الجزار والحشد. لم يبقى أيّ شيء باستثناء ذلك الملك.
قال الملك: “يا بني، لن تتمكن من تحقيق هدفك لأنك تستطيع التحكّم في لسانك. من الأفضل لك أن تعود لمدينتك “.
-“أنت على حق يا سيدي، من الأفضل أن أرجع إلى المنزل وأن أعيش بحسب ما أوفره من قوت يومي بدلاً من رؤية كل هذا الشيء المؤلم الذي أراه. كيف يمكن للمرء أن يرى كل هذا العبث ولا يبدي أيَّ ردة فعل تجاهه؟ “
-“يا بني لقد كانت هذه مجرد علامات لأنني مرسل من الله لتوضيح الأشياء.”
-“ولكن ما الذي يحتاج إلى توضيح؟ كل شيء كان واضحا بما فيه الكفاية “.
-“لا، ليس كلّ شيء واضحا لك. إنّ تلك المرأة البدويّة التي حملت الحطب وسقط منها، تمثل الناس في يومنا هذا، وقد مثّل الحطب ذنوبها. فبدلاً من أن تنقص من ذنوبها بفعل الأعمال الصالحة والصلاة ليكونوا أنقياء بما فيه الكفاية، فإنهم يميلون إلى زيادة القيام بالذنوب. لقد كان ذلك الصياد أيضا يمثّل الإنسان، في حين يرمز الأرنب الى المال وكل ما هو مادي، وكان الأسد هو الموت. فالناس يركضون وراء المال دون أدنى اهتمام عن مصدره ومأتاه، حرام كان أم حلالا، ودون العمل لضمان نهاية جيدة لحياتهم.”
أمّا في المدينة حيث اشترى الناس اللحوم الفاسدة بينما يتجاهلون اللحوم الصالحة، فإنّ أولئك الناس لديهم أموال حرام. هل ترى الآن المصير المحتوم لهذا المال المكتسب بشكل حرام؟ إنّ تلك الأموال تذهب نحو الظلام. لا يوجد شيء أفضل من الرّزق الحلال والمال المكتسب بعرق الجبين. إنّ العيش بكسرة خبز شعير وماء حلال أفضل من العيش بجبال أمول حرام، هل فهمت؟ “
“حسنا لقد فهمت.” هكذا تلقى الحطاب الدرس وتاب، وعاد إلى البيت بين زوجته وأولاده. عاد إلى العمل واتّكل على الله حتّى رزقهّ من الرّزق الحلال الطيّب.