في أحد العصور كان حي الكْيوُفْ يمثّل حي الفنّ حيث كانت المطربات تقيم الحفلات والسهرات في ديارهن.
وكانت إحدى المطربات المشهورات في ذلك العصر تسكن في تلك المنطقة. وفي أحد الليالي كان في بيتها جماعة يسهرون عندها. وبعد انتهاء المتعة والفنّ والطرب والشراب، رتّبوا المكان وبقيوا يتسامرون. حينها روى أحدهم أنّ فلانا قد قِيل بأنه مات بين أهله، وبينما كانوا بصدد البكاء عليه قام وجلس في وسطهم ففزعوا هاربين مردّدين:” لقد لبسه شيطان!”.
قال أحدهم: “اني أخاف الميّت وأخْشى الاقتراب منه حتى لو ذلك الميّت أبي. أمّا المطربة المشهورة فقالت :”ما المخيفُ في الميّت بعد موته ؟ ما المخيف في مائدة أو أريكة أو مقعد الميت أو ما تبقى من أشيائه؟ أنا لا أخاف الميّت.
لكنّ الحاضرين انقسموا بين مصدّق ومكذّب ، فقالت لهم : “فَلْنَترَاهنْ ! اختبروني!”.
فكّر الحاضرون طويلا عن الكيفية التي سيختبرونها بها؟
فقال أحدهم:
” في مغيب اليوم شُنق أحدهم في “باب سويقة” ولايزال مُعلّقا هناك. أتستطعين بلوغه ليلا و قَطْع الحبل ؟”
قالت :” سأذهب.”
“أحقّا ما تدعين؟”
“بلى، أفعل.”
اتّفقوا على أن يدفع كل شخص مقدارا ماليا إذا عادت بقطعة من الحبل أمّا إن خسرت الرّهان فستتحمّل كلفة مأكلهم و مشربهم وسهرتهم.
فخرجت.
حملت معها سكّينا وكرسيّا لتستطيع الصعود إلى المشنقة العالية. وعند وصولها إلى المكان لم يكن هناك أيّ حارس أو رقيب. فسارت في ذلك الظلام الحالك حتى بلغت المشنقة فوضعت الكرسي ثم صعدت وتشبّثت في المَشْنُوق، وقَطَعتْ به الحبل فسقط أرضا. فكّت عقدة الحبل من رقبته وعادت تجري مذعورة كما يحدث لأي امرأة. في حالة الهلع تلك، نسيت كرسيّها وسكّينها. عند عودتها وجدت الجماعة في انتظارها. ألْقَتْ قطعة الحبل وسقطت على الأرض مغشيّا عليها.
هذا ما حدث مع الجماعة.
أمّا المشنوق فقد قِيل أنّه شُنِق عند المغرب. كان الشّانق ” العم حسين” فقد كان مُتعبا ويَتُوق الى العودة الى منزله فلم يُثبّت العُقدة جيّدا في رقبة المشنوق وانّما شُدّت إلى ذقنه.
فظلّ المشنوق مُعلّقا مُغمى عليه. وحين قُطِع الحبل وسقط أرضا وفُتحت له العقدة وهبّ النسيم وحلّ الليل، عطس و تنفّس و تحرّك، ثم فتح عينيه فوجد نفسه مُلقى أرضا، فتذكّر أنّه مشنوق.
ما العمل؟ ما العمل؟ عليه أن يهرب، لكن إلى أين؟ فالمدينة آنذاك يُحيطها سُور عَال ولا تفتح أبوابها إلاّ صباحا.
قال:” على كلّ حال سأتدبّر أمري.”
فقام وأخذ ذاك السكّين بعفويّة ثم اختبأ عند “الطرخانة”.
فجرا، فُتح “باب العلوج” فوضع القشّابيّة التي يقع إلباسها للمشنوق وخرج. بعد أن ابتعد قليلا عن الباب انطلق راكضا كحصان يطوي الأرض طيّا، ثم قال :
” أنا متأكد أنهم سيلحقونني فهذه هي الطّريق الوحيدة التي سيتبعونها ليلحقوا بي.”
وفي الطريق وجد كوخ قشّ فاندسّ فيه. عندما حلّ الظّلام قام وسلك الطريق وفي اليوم التالي أعاد الكرّة. كان أحيانا يرتاح في أحد القرى وتارة يهِبونه كُسيْرة خبز وطورا يطردونه.
بعد ثلاثة أو أربعة أيام من الركض والهروب، لاحَتْ له قُبّعة المسجد الكبير، فأدرك أنّه بلغ القيروان. عَبر منطقة “ذراع التّمار” ولكنه لم يتمكّن من وصول المدينة قبل أن َيحِلّ الظّلام، فقفلت المدينة أبوابها قبل أن يدخلها. وجد نفسه في منطقة “الجناح الأخضر” وهي مقبرة مُقْفِرة خارج المدينة ولا مكان فيها لا للنّوم ولا للاختباء، فلا وجود إلاّ للقبور. جلس أمام قبر وحين وضع يده أرضا أحسّ بالبلل فلامس القبر ليُدرك أنّه جديد.
(كما تجدر الإشارة إلى أنّ من عادات التونسيين أن لا يبنوا القبر إلا في اليوم الثاني أو الثالث من دفن الميت بينما في البلدان الأخرى يقع بناء القبر منذ أوّل يوم يقع فيه تقديم التعازي. هذه فقط مجرد ملاحظة بسيطة أقولها لحفّاري القبور التونسيين. (
صار الرجل مُنهكا إذ أنّه قضى يوما كاملا وهو يركض في الطريق، فما هو إلاّ بشر محدود الطاقة. أسند رأسه على القبر واتكأ لينام. بدأ النوم يداعب جفونه وإذا به يسمع صوتاً من باطن الأرض يُشبه أنين انسان. في البداية، ساوره الشك ثم بعد ذلك جزم بأنّ الصوت منبعث من ذلك القبر وليس من أيّ مكان آخر. أخذ السكّين وبدأ ينبش التراب. أخذ يزيح الحجر تلو الآخر حتى أحدث ثقباّ فأخذ الضجيج يزداد. كان يتصبب منه العرق وهو في شكّ من أمره يُلقي الحجارة ويُكدّس التراب حتّى بلغ القاع. علا الصراخ وإذا به انسان!
كفَّ الصوت عن الصراخ وتبيّن أنّها امرأة. كانت قد صرخت حين أفاقت ثم أُغمي عليها حين فُتح القبر. أخرجها ووضعها أرضا وصفعها فاستفاقت مرّة أخرى.
قالت :” فليبارك الله من أحياني من جديد.”
سألها الرجل :”ما أمركِ؟”.
أجابت :”لا أدري ما الذي حلّ بي. أذكر أنّني كنتُ مريضة في بيتنا.”
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“لا أدري.”
“إنّكِ في قبر !”
“لعلّه أُغمِي عليّ فذهب بهم الظنّ أنّني مِتّ فدفنوني.”
“ابنة منْ أنتِ ؟”
قالت : “ابنة فلان.”
ماذا سيفعل الآن؟ الظلام حالك وأبواب المدينة مقفلة والبرد قارس. خلع قشّابيته ووضعها فوق كفنها. أخذها النعاس فنامت.
صباحا، فُتحت أبواب المدينة.
فسألها :” سأوصلك إلى المنزل، أين تقطنين ؟”.
أجابت : “حومة الجامع”.
” أين تقع “حومة الجامع” هذه ؟”
” لا أدري.”
كانت النساء في ذلك العصر لا يفارقن بيوتهن و اذا ما خرجت احداهن تاهت ولم تستطع العودة، ولذلك بدأ الرجل يسأل كل من يعترضه عن “حومة الجامع “وكانت المرأة ترافقه مخفيّة وجهها تحت القشّابيّة.
بلغا المكان، سأل عن المنزل المنشود، فأشاروا إلى بيت أبوابه مفتوحة والناس بصدد اخراج كراسي عزاء البارحة منه. فأشار الرجل الى المرأة قائلا : ” تفضّلي هذا منزلك.”
حين دخلت البيت، حلّ الهلع وفرّت كلّ النسوة متدافعات إذ ذهب بهنّ الظنّ أن شيطانا قد لبسها ففتحت القبر وخرجت. لكن بعد لحظات، عادوا الى رشدهم وارتفعت الزغاريد وبدأ العناق والقُبل وحلّت التّهاني عوض التّعازي. وتمّ الترحيب بذلك الغريب ترحيبا عظيما وأحسنوا اكرامه، وأقسم الأب أن يزوجه ابنته.
فتزوّجا وعاشا في هناء حتىّ الممات.