يُحكى أنّه كان يوجد تاجر من كبار التجار وقد كان هذا التاجر حريصا على أمواله ككل التجار. كان لهذا التاجر بيت في وسط مدينة تونس وكان يملك دكاكينا ودارا في منطقة سيدي بو سعيد لقضاء فصل الصيف وضيعة في تلّة “سيدي يحي” وضيعة أخرى لزراعة الزيتون في منطقة “طبربة”، وكان لهذا التاجر خدم ومساعدون. وكلّما خرجت قافلة تجارية من بلاده إلاّ وكانت تتضمّن 20 أو 30 جملا يحملون بضاعته، وكلّما جاءت سفينة إلى بلاده إلاّ وكانت تحضر له بضاعة. .
أنجبت له زوجته ولدًا، كبر وترعرع حتى آشتدّ عوده فأدرجه في الكُتّاب وكان كلّ يوم جمعة يأخذه معه إلى الدكان. كبر الولد وأُغرم بحفظ القرآن، وأنهى دروس القسم الأوّل ثمّ الثاني فالثالث. لقد كان أبوه يعلم مسبقا المستقبل الذي ينتظر ابنه، فحال ذلك العصر ليس كيومنا هذا، ففي يومنا هذا يمكن أن يصبح ابن القاضي محاميا وابن العطّار طبيبا…أمّا في ذلك العصر فإنّ ابن التاجر يصبح تاجرا ويأخذ حانوت أبيه بعد وفاته. دأب التاجر على أخذ ابنه كلّ يوم جمعة معه إلى الحانوت ليعلّمه البيع والشّراء وليتدرّب ويعرف الناس. أحيانا كانت تصل قافلة فيذهب التاجر صحبة ابنه لتفحّصا البضاعة القادمة، وأحيانا آخر كانت سفينة تغادر فيذهب التاجر صحبة ابنه ليشحن بعض البضاعة فيها.
وحين أتمّ الابن دروس القسم الرّابع قال له أبوه : ” يكفيك ما بلغته من الدراسة، ستشتغل معي منذ الآن في الحانوت “.
وصار التاجر أحيانا يخرج ويترك ابنه وحيدا في الحانوت لمدّة ساعة أو ساعتين من الزمن ليدرّبه على العمل. أحيانا آخر كان يترك ابنه يذهب بمفرده إلى الحانوت، وعوض أن يخرجا معا يقول له:
– ” فلتذهب وحدك. اسبقني ..إنّي متعب بعض الشيء”
ثمّ يلتحق به بعد مضي ساعة أو ساعتين. كان أحيانا يتركه صباحا كاملا في الحانوت بمفرده، وأحيانا كان يتركه مساءً كاملا وأحيانا يوما كاملا إلى أن صار ذلك الولد تاجرا قادرا أن يعوَّل عليه ، فأصبح التاجر يخرج إلى الضيعة ويغيب عنه أسبوعا وأكثر من أجل مراقبة عمّال الحرث والفلاحة. وفي أحد فصول الصيف ظلّ الشيخ مرتاحا في الشاطئ وترك ابنه يعمل مكانه وأوكل له أمر الحانوت بينما كان يأتي لمراقبته كل أربعة أو خمسة أيّام أو أسبوع من أجل تفحّص الحسابات المالية. تواصلت الأمور على ذلك المنوال إلى أن راودت الشيخ فكرة، فقال في نفسه :
– ” جيّد ، لقد تعلّم ابني التجارة فلا خوف عليه، لكن عمله في الحانوت لا يكفي”.
فأعدّ له قافلة بمائة جمل وكان كل جمل يحمل كيسين كبيرين وصناديق بضاعة، وأعطاه حصانا ثمّ أرسل معه المساعدين القدماء الذين اعتادوا على السفر وقال له:
– ” يا بنيّ توكّل على الله واذهب إلى تلك البلاد. بِعْ بضاعتك واشتري بضاعة أخرى، وإن رغبت في السفر إلى بلاد أخرى أو غيرها فلك ذلك، ثمّ اشتري لنا قليلا من البضاعة الأخرى الموجودة خارج بلادنا ثمّ عُدْ “.
ثمّ ودّعه وأخذ الطّريق يترأّس قافلته تلك.
مرّ أول يوم وهم يعبُرون المناطق السكانية، ومرّ اليوم الثاني وهم لايزالون يعبرون المناطق السكانية، ثمّ في اليوم الثالث دخلوا الصحراء. وبعد مايقارب يومين أو ثلاثة دخلوا الغابة، وساروا نهارهم الأوّل في الغابة، وفي الليل حطّوا رحالهم في مكان ما ، أكلوا، سهروا ثمّ ناموا كلّ واحد فيهم في مضجعه وظلّ واحد منهم في الحراسة ، ونام الولد مثلهم.
وفي آخر تلك الليلة شبع الولد من النوم فاستفاق، وقف، فسأله مسؤول الحراسة قائلا: ” أأنت بخير يا سيّدي ؟”
فقال : ” لا بأس أنا بخير، أصابني أرق وأرغب في المشي قليلا”، ثم سار خطوة تلو الأخرى، كان الليل في آخرهوكان النوريظهر رويدا رويدا. وفجأة رأى الولد جسما يتحرّك أرضا، فخاف وعاد إلى الوراء ، ظنّه ثعبانا، ثمّ بدأ الولد يقترب منه خطوة خطوة، فماذا وجد ؟ إنه حيوان ، انه ذئب أكل عليه الدهر وشرب، ذئب هرم منهك مُلقى، لا أسنان له، إنّه متهاوي لا يقوى على الحراك. ظلّ الولد يحدّق فيه مفكّرا: “ما الذي بقي في عمره بحقّ السماء؟ أليس موته أفضل من حياته ؟ لو قتلته سأريحه من هذا العذاب ؟ كيف يقوى على العيش ؟ كيف سيتحصل على قوته؟ وأين له بجهد الصيد؟ إنّه لا يقوى حتى على الوقوف.”
وبينما هو يفكّر ويخطّط سمع زئيرا.
” ما هذا؟”
وفي حينها تسلّق الشجرة التي كان الذئب يستلقي تحتها، وكان الزئير يدنو منه وكان قلبه يرتجف، وإذا به يلمح أسدا ضخما قادما يجرّ ثورا. بلغ الأسد الشجرة، وضع الثور أمامه وشرع في الأكل متباهيا مكسّرا عظامه، وكان شخيره يعلو، شبع، تجشّأ، ووقف. كانت حذوه بركة ماء شرب منها وزأر مرتين ثمّ غاب، وكان الولد متحصّنا بأغصان الشجرة يتابع ما يحصل. إنّ ذلك الذئب الذي كان منهكا بدأ يتحرّك ويزحف رويدا رويدا حتى بلغ ما خلّفه الأسد من عظام وبقايا وشرع في الأكل ملتهما الطعام فشبع حتى التخمة وشعر بالدوار فاستلقى أرضا ، ثمّ تحامل على نفسه قليلا حتى بلغ بركة الماء فشرب منها وظلّ جاثما هناك و ترك فمه في الماء حتى طلع النهار.
نزل الولد من الشجرة ومشى إلى رجاله قائلا:
– ” لنعد أدراجنا”
– ” ما الأمر، هل أنت بخير؟ “
– ” لا بأس، هذا يكفي. “
ثمّ عادوا إلى البلاد. ووصلت القافلة أمام الدار فجرا وكانت الجِمال تصدر قعقعة وصياحا وضوضاءً.
طرق الولد الباب ففُتح له ووجد أباه يصلي.
– ” عمتَ صباحا يا أبي”
– ” يومك سعيد..ما بكَ ؟ هل اكتفيتَ ؟ أين وصلتَ؟ أعتقد أنك لم تبلغ أيّ بلاد، ما الأمر؟ أتعبتَ؟ أمرضتَ ؟ “
– ” لا يا أبتي، لا شيء من ذك، ما تعبت ولا مرضتُ، بل سأقصّ عليك ما رأيت”.
وروى له ما رأى من واقعة الذئب والأسد.
– ” يا أبتي لقد ساق له الله لذلك الحيوان العاجز رزقه عن طريق الأسد، والله يرزق العامل والعاطل، وبما أنّ الله سبحانه وتعالى هو من يتكفّل بالأرزاق فلما علينا تحمّل المشاقّ وركوب الأسفار واقتحام المخاطر؟ من أجل ذلك عُدت أدراجي فالأمر لا يستحقّ العناء.”
فكّر الشيخ وفكّر ثمّ قال:
– ” فلتستمع يا ولدي .أنا ما أرسلتك لركوب الأسفار واقتحام المخاطر كما تقول إلاّ لتكون أسدا تقصدك الذئاب الجائعة ليأكلون من بقاياك، لا أريدك أن تكون ذئبا جائعا تنتظر ما زاد عن حاجة الأسد، لا أريد لك ذلّ انتظار ما زاد عن حاجة الناس و البقاء تحت رحمتهم، فَلْتَعُدْ إلى طريقك ما دامت قوافلك لا تزال مُحمّلة وبضاعتك مشحونة، وما دام لم يرك أحد من الناس وإلاّ فإنّنا سنصبح عرضة لاستهزاء الناس.
فأدرك الولد صواب الرأي وعاد إلى رُشده وقال : ” صدقت يا أبتي”.
وخرج بقافلته راجعا إلى طريقه.