لا أحد منّا لا يعرف قصة” عكرّك والغول”، من منّا لم ترويها له جدّته في صغره، ومن منّا لا يتذكّر حتى بعضا منها أو حتى كلمات منها.
شاءت الصدفة أني قرأت مرّة كتاب قصصٍ فرنسيّة فعثرت على ما يشبه هذه الحكاية التي سبق ذكرها.
فكلّ القصص تأخذ من بعضها البعض، وقد أحكي لكم أحيانا حكاية من الأندلس أو الهند أو اليابان، فتبدو كأنّها إحدى حكاياتنا، وغالبا ما تختلف عنها إلاّ في بعض الجزئيّات.
يُقال أنّ خياطا كان يجلس في حانوته منهمكا في الخياطة، مرّت امرأة تبيع مربّى ، فاشترى منها بعضا منه ثمّ أخذ قطعة من الخبزة كانت في حانوته، شقّ الخبزة على نصفين ووضع ذلك المربّى في وسطها لتكون فطورا له، وعاد لإنهاء عمله قبل أن يعود لتناول الفطور في ما بعد. وإذا بجحافل من الذباب تنزل على ذلك الخبز المغمّس بالمربّى، فبدأ الخياط بطردها ملوّحا بيده، وفي ضربة من الضربات التصقت يده في المربّى، ولمّا رفع كفّه وجد سبع ذبابات ملتصقة بها.
فقال في دهشة: ” ما هذا؟ أنا عياري سبعة؟ أنا أقتل سبع أرواح في ضربة واحدة؟ أمازلت باقيا في هذه البلاد؟ إنّ هذه البلاد لم تعد تتّسع لي. ما هذا إلاّ إهانة لي، وأنا خياط، لا أرضى لنفسي هذا الشيء.”ثمّ أخذ قطعة قماش وصنع منها حزاما وكتب عليه: “هذا عياره سبعة”. وقد كان ذلك الخياط قبيح المنظر ذميما، لقد كان وزنه خفيفا جدّا إلى درجة أنّ نفخة هواء واحدة قادرة أن تجعله يطير.
ثمّ خرج يتجوّل في المدينة، وكان كلّ من يراه ويقرأ تلك الكتابة يقفز هاربا، حتى بلغ الخياط باب المدينة وخرج.
لكن دعوني أخبركم بما حصل قبل ذلك. قبل الخروج من حانوته أخذ الخياطط قطعة جبن ووضعها في جيبه من أجل أن يتناولها إن جاع في طريقه، وحين كان يهمّ للخروج دخل عصفور إلى الحانوت ولم يتمكّن من الخروج، فبدأ يطير ويصطدم بالجدران ويحاول الخروج فحاصره الخياط حتى أمسك به ووضعه في جيبه.
خرج الخياط من البلاد ودخل الغابة بعد أن خرج من المدينة، فاعترضه غول شاهق القامة وهائل العرض، مُفزع المنظر، وبدأ ذلك الغول في الضحك. تساءل الغول قائلا: ” كنت أظن أنّني سأجد إنسانا كاملا يسدّ رمقي ، فإذا بي ألقاك، إنّك لا تكفي حتى لملء فمي، ما هذا؟”
فردّ عليه الخياط: -” أتقدر عليّ؟ إنّي أشدّ قوّة من عشر رجال من أمثالك.”
-“أنت؟”
-“أجل. ألم ترى ما كُتب؟ لنرى إذن من منّا الأقوى”
-فردّ الغول : ” حسنا، حسنا، انتظر قليلا”
ثمّ التفت يمينا ويسارا وهو يبحث عن شيء، ثمّ انحنى والتقط حجرا ووضعه في كفّه وبدأ يضغط عليه بيده حتّى أخرج منه الماء.
-” أقادر أنت على فعل هذا؟”
-قال الخياط : ” بلى، أتظنّني عاجزا؟ إنّ من وُلد من امرأة لا يُحتقر.”
ثمّ أخرج من جيبه قطعة الجبن وانحنى متظاهرا بأنّه يهمّ لالتقاط حجر، ثمّ ضغط على قطعة الجبن حتى استخرج منها حليبا، ثمّ قال للغول:” أنا استخرج من الحجر حليب أمّه.”
فصار الغول ينظر إليه بانطباع جديد، وقال له:” جيّد، فلنرمي حجرا ولنرى إن كنت ستبلغ به ارتفاع ما أبلغه به.”
والتقط حجرا، ورماه عاليا في السماء ثمّ نزل أرضا، فقال الخياط :” هذا عمل سهل.”
ثمّ أخذ الخياط ذلك العصفور من جيبه وألقاه عاليا فطار ولم يعد، وقال للغول : ” حجارتي التي أرميها لا تعود، بل إنّها تلاقي خالقها.”
فكَنّ له الغول التقدير، وقال له :” أنت ضيفي لهذه الليلة.”
فقال الخياط : ” ولمَ لا !”
ثمّ همّ الغول واقتلع شجرة وسأل الخياط: ” ألك القدرة على حملها معي؟”
فقال الخياط: “بلى، أتختبر قدرتي على ذلك؟”، ثمّ طلب من الغول حملها من الجذع، وحين حملها قفز الخياط وتشبث بأحد أغصانها مُدّعيا حملها وسارا معا دون أن يتفطّن الغول لذلك. وحين وصلا، ألقى الغول الشجرة فقفز الخياط أمامها واقفا.
وكان أمام مغارة الغول حديقة وأشجار، لقد كان فيها شجرة برقوق ناضجة، جذب الغول منها غصنا إلى الأسفل وشرعا يأكلان من ثمارها، و حين شبع الغول ترك الغصن يفلت من قبضة يده، لكنّ الخياط لم يسحب قبضته عن غصن الشجرة وإذْ كان خفيف الوزن فقد اهتزّ إلى أعلى الشجرة ثمّ نزل حذوها وسأل الغول : ” أقادر على القفز مثلي هكذا ؟” ، فحاول الغول لكنه عجز، فازداد احتراما للخياط، ثمّ دخلا المغارة فوجدا العديد من الغيلان ومجموعة من الأكباش المسلوخة، فأوقدوا نارا وأمسك كلّ غول كبشا بيد واحدة لالتهامه،فقال الغول للخياط:” هيّا تناول عشاءك”
-لا، شكرا لك، أنا لا أقدر على تناول كبش واحد، أنا لا أرضى إلاّ ببقرة كاملة.” فاعتذروا له لنزول الليل وعجزهم عن توفير ذلك له، فسألهم قائلا: “أين أنام؟ أين أنام”؟
فأشاروا إليه بفراش، فاستلقى فوقه. وحين أطفؤوا الفتيل وناموا، نزل من فراشه بهدوء، وذهب ليختبئ في ركنٍ.
وفي وقت متأخّر من الليل جاء الغول بقضيب حديديّ ضخم ومدّمر ثمّ هوى على الفراش وضربه ضربة واحدة قادرة على تحطيم عشرة مثله. وعند الفجر استيقظوا للخروج معتقدين أنّه قد مات. وفي الصباح خرج لهم ففزعوا حين رأوه، وفرُّوا هاربين كلٌّ في طريقه، فقال حينها: ” هل من مبارز؟ هل من منازل؟” لكن لم يبقى لأحدهم أثر، وبدت الغابة كأنّها فارغة خالية، فسار في الطّريق حتى قرب لبلاد.
وصل أمام بلاط الملك، فافترش القاعة ونام. فتفطن له مسؤول الحراسة، وتساءل : ” من هذا المتطفّل الذي ينام أمام بلاط سيّدنا؟”، ثمّ أمر الجنديّ بضربه وطرده.اتجه الجنديّ نحوه وحين همّ به رأى ما كُتب على الحزام فولّى هاربا صوب مسؤول الحراسة قائلا: ” عياره سبعة “، فسأله : ” كيف ذلك؟ ثمّ ذهب مسؤول الحراسة ليستطلع الأمر وألقى نظرة ثمّ قال في نفسه” لن أورّط نفسي فأنا لا أقدر على هذا الشيء.
واجتمع حشد من الناس حوله دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه بينما كان هو غارقا في سباته العميق.
وحين خرج الملك للشرفة، قال:
-” من هذا الحقير الذي ينام هناك؟ خذوه إلى المشنقة”.
وتناقل الجنود أمر الملك من واحد إلى آخر حتى بلغ ضابط الحراسة، فصعد إلى الملك وقال:
-” يا سيّدي، يدّعي هذا الرجل أنّ عياره سبعة “
-” أصدقا ما تقول؟”
-” بلى ، يا سيّدي، لقد كُتب ذلك على محزمته”
-” مثل هذا الشخص لا يُفرّط فيه، سأجعله قائدا لفيالقي، تراه يرضى بذلك؟ على كلّ حال لا تلمسه، دعه حتى يستفيق من نومه، قد يغضب ويثور وتحلّ بنا كارثة”.
ثمّ انتظروه حتّى استفاق من نومه، وتقدّموا نحوه بكلّ احترام قائلين:
-” يا سيّدي، إنّ مولانا يُبلّغك السلام ويطلب منك لو تفضّلت بالصعود إليه لتشاركه شرب قهوة”.
قبل الخياط الطلب واصطفّ الجنود فصار بينهم وأدّوا له التحية. صعد الخياط المدرج وكان على كلّ درج جنديّ ليلقي له التحية. دخل الخياط بيت الديوان، فقام الملك واعترضه في منتصف الطّريق، حيّا كلاهما الآخر، وأجلسه الملك حذوه وأحضروا له القهوة والحلويات ووفّروا له كلّ شيء.
وقال الملك: ” أتقبل أن تكون قائدا لفيالقي؟”
-” قبلتُ”
-” لكن عليكَ قتل الغولين اللذان يسكنان الغابة ويقتلان في رعيّتي.”
-” هذا أمر هيّن يا سيّدي، أين هما؟ وفي أيّ جهة من الغابة أجدهما؟”
-” سيوصلك إليهما بعض من رجالي”.
وخرج معه فيلق حتى بلغوا الغابة.
فقال الخياط: ” دعوني وحدي، لا أرغب في مجيء أحد معي، لست في حاجة لمساعدتكم، لو كان الأمر أكبر من هذا لتطلّب دعمكم، لكن هؤلاء أمرهم هيّن، هات سيفك يا هذا”، ثمّ وأخذ سيف أحد الجنود ودخل الغابة.
مشى في الغابة طويلا، بخطى حذرة حتى لقي غولين نائمين تحت شجرة. شرع في جمع الحصى وملأ بها جيوبه ثمّ صعد الشّجرة. اختبأ بين أغصانها ثمّ ألقى حصى على وجه أحدهما، أفاق ، فرك عيونه، أيقظ صاحبه سائلا : ” لماذا ؟”
-” عمّا تسأل؟”
-” دعني أنام، ليس هذا وقتا للمزاح! “
وعاد إلى نومه. فألقى الخياط بحصى أخرى.
فقال الغول لصديقه : ” ألا تستحي؟ ماذا فعلت لك؟”
-” لم أفعل شيئا.”
-” بلى فعلت.”
-” لا لم أفعل.”
وانهال كلاهما يضرب الآخر، حتى بدا المكان كأنّما حرث، وكلّما اتّكأ أحدهما على شجرة اقتلعها، ثمّ هلك الاثنان، فانقطعت أنفاسهما وماتا مخلّفين دماء مذبحة. فنزل الخياط من الشّجرة حين تأكّد من موتهما، غمس سيفه في الدم، وبلّ يديه ووجهه حتى أصبح كلّه بالدم، وعاد إلى الجنود وعيناه تتطاير شرارا، مع قصر طوله وصغر حجمه.
فاجتمع الجنود لرؤية الموتى، وعادوا إلى الملك مسرعين ومندهشين، ثمّ سردوا له ما حدث.
فقال الملك: ” رجل مثل هذا لا يجب التفريط فيه.”
بعد ذلك زوّجه ابنته ووهبه نصف ملكه.
هذه حكاية ” عكرّكْ والغولْ” التي رُويت لنا حين كنّا صغارا.