خلال إحدى الأمسيات التي كنت أقضيها في المسرح، انضممت إلى حشد من الناس كانوا يدخنون السجائر ويدردشون على شرفة المسرح أثناء فترة الاستراحة. فجأة، بدأ اثنان من الحاضرين في الجدال حتى وصل بهما الحال الى العراك. وعلى الرغم من أنهما كانا أنيقين ومرتديين ملابس أنيقة كما لو كانا من أعضاء مجلس للمستشارين، فإنّهما قد تبادلا الإهانة والشتائم.
قال أحدهما للآخر: “هل نسيت الخير الذي فعلته من أجلك؟ أطعمتك وقدمت لك السّكن، حتى أنّي ألبستُك معطفي الطويل.”
أجاب الآخر: ” يا لك من وضيع، ليس من المعقول أبدا أن تتحدّث عن الطعام الذي تعطيه للآخرين، ولكن هذا الأمر متوقع من شخص مثلك أصلهُ ‘كنود’.”
رنّ الجرس وانتهت الاستراحة فدخلنا، ولكن عبارة ‘كنود’ بقيت راسخة في ذاكرتي لأنّي لم أفهمها، وبما أنني شخص فضولي للغاية وأسعى إلى معرفة أصل العبارات والكلمات فقد كنت أتطلع بشوق إلى معرفة معناها.
بينما كنت ذات يوم داخل الإذاعة، جاءني البوّاب وقال لي: “هناك فتاة تريد مقابلتك”. خرجتُ لها فقالت لي” أنا أقطن في منطقة طبربة وأود أن أبقى في منزله”.
-“لماذا ترغبين في ذلك؟”
أوضحت قائلة: ” والدي طردني أنا وأمّي من المنزل، وأمّي ذهبت عند خالي، أمّا أنا فلم أجد أيّ مكان أذهب إليه، وها قد جئت إلى هنا حتّى أبقى في بيتك.”
-“حسنًا، مرحبًا بك. “
وفي أحد الأيام تحدثت معي عن والدها وقالت: “إنّ اصله ‘كنود’، فقلت لها:
“ماذا تقصدين بهذه العبارة؟”
قالت: “إنّها قصّة كاملة.”
فقلت: “أخبريني بها إذن.”
قالت: “ذات مرة كان هناك سلطان في شرفة قصره، وفجأة رأى متسولًا يمرّ تحت الأسوار فألقى له بفلسين. نظر المتسول بتمعّن إلى الفلسين وشعر بخيبة أمل ثم رفع رأسه وقال للسلطان: “أصلك ‘كنود’. “
تجاهله السلطان في بداية الأمر، لكنه في وقت لاحق من تلك الليلة تذكر تلك العبارة وقال للوزير: “ما معنى ‘كنود؟’، أجاب الوزير: “أنا لم أسمع هذه العبارة من قبل.” فقال السلطان: “أريدك أن تبحث لي عن معنى هذه العبارة”.
مرت الأيام ولكن دون جدوى، لم ينجح الوزير في معرفة معنى الكلمة.
سأله السلطان: “ما الجديد؟”
رد الوزير: “لم أجد المعنى”.
قال السلطان: “اذهب إلى البلدان واركب البحار واعبر الصحاري واذهب أينما شئت، ولا تعد إلى هنا أبدا قبل أن تجد معنى هذه الكلمة.”
غادر الوزير وبقي يسافر من بلاد إلى أخرى، وكان يقضى في كل بلد يزوره حوالي أسبوع أو أسبوعين من أجل أن يسأل عن معنى تلك العبارة. ذات مساء وجد الوزير نفسه يمشي وحيدا في مكان قاحل إلى أن مرّ بخيمة فقال في نفسه سأقضّي ليلتي هنا، ثمّ سُمع صهيل حصانه فخرجت له فتاة من داخل الخيمة فقال لها: “هل تتكرّمون بضيافتي الليلة؟”،فقالت: “مرحبا بك، تفضّل.” ساعدته الفتاة على النزول من حصانه، وفرشت له بساطا. ثم ربطت الحصان وأعطته شعيرا، ثمّ أحضرت إبريق ماء للرجل ليغسل أطرافة. فجأة ظهر رجل عجوز تبيّن أنّه والد الفتاة.
قالت الفتاة لوالدها: “لدينا ضيف الليلة، إنّه يبدو من كبار القوم وهذه بادرة خير لنا.”
قال الأب: ” تعالي معي، سأذبح له خروفًا وأعدّي له طبق كسكسي باللحم. “
عندما وصلا إلى الأغنام، بدأ في تفحّص الخرفان ليختار الخروف الذي سيذبحه. تردّد الأب في الاختيار ثمّ قال: “لكن لماذا علينا اختيار خروف؟ فلنكتفي بذبح عنزة عوض الخروف”، ثمّ ذهبا لتفحّص العنز واختيار العنزة التي سيذبحها، ثمّ قال الأب: “ولكن لماذا علينا أن نذبح عنزة؟ اذهبي واذبحي له ديكا”، ثمّ غير رأيه مرة أخرى وقال: ” يا عائشة، اذبحي له فرخ دجاج عوضا عن الديك”، وعندما استدارت قال لها: “تعالي، تعالي، لا داعي لذلك، أعدي له كسكسي ببعض الحليب عوضا عن فرخ الدجاج.”
ذهبت البنت وأعدّت الكسكسي وسقته بالحليب ثمّ قدّمته للوزير، فتناول العشاء ونام. في صباح اليوم التالي أحضرت له حصانه وساعده على الركوب، وقبل أن يغادر، قالت له: “لا تلمني عمّا حصل البارحة، إنّ أصل أبي ‘كنود’ وهذا هو سبب تصرّفاته.”
فوجئ الوزير بسماعه لعبارة “كنود”، وعلى الفور نزل من فوق حصانه وسألها قائلا: ” لقد جئت هنا خصيصا لمعرفة معنى هذه العبارة وأنا أسافر من بلد إلى آخر من أجل أن أفهم معناها.”
“الشخص الذي أصله ‘كنود’ هو الشخص المتسوّل الذي كان يعاني الفقر والمعاناة في الشارع قبل أن تتغيّر أحواله ويصبح ثريّا إلاّ أنّه يبقى بخيلا ولا يصبح الجود من خصاله أبدا، فوالدي على سبيل المثال، طلب مني في البداية أن أعد لك لحم الخروف، ثم ندم وقرر إعطاءك لحم العنز، ثمّ غيّر رأيه في وقت لاحق وقرّر إعطاءك لحم الديك الرومي، ثمّ غيّر رأيه وأراد تقديم لحم فرخ الدجاج، ثمّ غيّر رأيه أخيرا وقرّر تقديم الكسكس بالحليب.”
عاد الوزير مباشرة إلى السلطان وأخبره بما بكلّ ما حصل.
صرخ السلطان قائلاً: “عجبا، هل تعني أنّي كنت في الأصل متسوّلا؟”
ذهب السلطان لرؤية والدته، قبّل جبينها وجلس حذوها لشرب القهوة، ثمّ سألها قائلا: “أخبريني يا أمي، من هو والدي؟”
شعرت الأم بالصدمة وقالت “ما هذا السؤال؟ إنّ والدك هو السلطان”.
قال السلطان: “أتوسل إليك أن تقولي الحقيقة”.
أجابت الأم: “إنها الحقيقة.”
لكنّ السلطان لم يصدّق ما قالته أمّه فأراد أن يدبّر لها مكيدة تجعلها تقول الحقيقة. وذات يوم اشتهى السلطان تناول طبق المحمّص فقال لأمّه: “تعالي لتناول الغداء معي”، وعندما مدّت الأم يدها أمسك السلطان بتلك اليد وغمّسها في الحساء الذي كان ساخنا جدّا وفي حالة غليان، وبعد أن أحسّت المرأة بآلام شديدة في يدها قال لها: “لن أترك يدك حتّى تخبريني من هو والدي.” فقالت له: “حسنًا، أترك يدي، سأخبرك بالحقيقة ولعلّ في ذلك نجاتي.”
ثمّ قالت: “سأقول الحقيقة، أنا امرأة عقيمة وفعلت المستحيل لأتمكن من ولادة طفل وذهبت إلى الأطباء والعرافين، ولكن دون جدوى. سمعت في يوم من أيّام أنّ السلطان ينوي التزوج من امرأة ثانية لكي تنجب له طفلا يكون خليفة له بعد مماته ففكّرت في حيلة. تذكرت متسولًا كان يعيش في كوخ قشٍّ خارج البلاد، وكان يأتي ويتسول أمام القصر، وفي مرّة من المرات جاءت زوجته إليّ فأحسنت إليها ثمّ أصبحت تأتيني من حين إلى آخر، وفي يوم من الأيام لاحظت أنها حامل، فأعطيتها هي وزوجها المال واتّفقنا على إحضار الرّضيع إليّ يوم ولادته، ثمّ تظاهرت بأني حامل، وكنت كلّما اقترب موعد الولادة أزيد في ربط القماش على بطني حتى صارت كبيرة للغاية. كان السلطان يحس بسعادة غامرة، وكان الخدم يعدون ملابس المولود المنتظر. وفي الليلة التي ولدت فيه المرأة جاءتني القابلة بعد أن اتفقت معها مسبقا وأعطيتها المال مقابل القيام بالخطّة التي صارت على أحسن وجه.. لقد أراد لك الله الخير. لقد كنت ستكون شحاذا ولكنّك أصبحت سلطانا، فالسلطان ليس أبوك وأنا لست أمّك. “
قال السلطان: “فهمت كل شيء الآن، لقد عرف ذلك المتسول من أكون عندما لم أقدّم له أكثر من فلسين. لقد صدق القول.”