يحكى أنّ سلطانا كان يخاف الله ويعطي قيمة لأهل العلم ويعظّم رجال الدين، كان يصلّي دائما وكان حافظا لكلام الله، ولكنه كان يرى بأنّ رعيّته لا تقوم بفرائض دينها كما أنّ الجوامع كانت خالية من الناس. فبقي يفكّر في طريقة تجعل الرعيّة تعود إلى الطريق المستقيم وتصلّي. قال في نفسه: ” إنّ من أركان الدين النظافة والطهارة، ولكنّ هؤلاء الناس لا يعرفون الاغتسال ولا تنظيف أجسادهم الوسخة. قبل كلّ شيء يجب أن نعلّمهم النظافة، والنظافة من الإيمان، فالنظافة توصل للوضوء والوضوء يوصل للصلاة”. فخطرت بباله فكرة وقال: “فلنبني حمّاما، وليكن لأيّ شخص الحق في أن يغتسل مجّانا.” فالحاكم العاقل الذي يريد أن يحبّب الناس في شيء ما يقدّمه لهم مجّانا في بداية الأمر. أتى السلطان بعامل بناء فبنى له حمّاما كبيرا وهائلا يسرّ النّاظرين. أصبح الحمام جاهزا، رُكّبت الأبواب والنّوافذ، وقع إحضار دهّان، بقي الدهان يدهن مدّة شهر، وضع الأزهار واللوحات الزيتيّة والمزهريات، فصار الحمّام جاهزا كأنّه عروسٌ. خرج منادٍ يصرخ في البلاد ويقول: “النظافة من الإيمان والاغتسال مجانيّ في حمّام السلطان”. كما جاء السلطان بعامل البناء وجعل منه موظّفا في الحمّام وأسند له راتبا شهريّا ليعتني بالمناشف واللوازم مثل الصابون وليقدم يد المساعدة للقائمين على التدليك والغسيل. صار الإقبال على ذلك الحمام كبيرا جدّا وأصبحت هناك طوابير من الناس الذين ينتظرون دورهم لدخول الحمام. وكان هناك شيخ جالس في الحمّام يعلّم الناس الوضوء والصلاة، وكان عامل البناء لطيفا جدّا في كلامه مع الزوار، وكان يعاملهم باحترام كبير وكان يجري مسرعا لمساعدتهم. فكان أحيانا يحضر المنشفة لأحدهم، وأحيانا يحضر القبقاب لأحد آخر ثمّ يأتي بشربة ماء لآخر، ويحضر القهوة لآخر، حتّى أحبّه الناس وأصبحوا يحسنون إليه، وأصبح يتلقّى من عندهم المال، وكان يجني المزيد كل يوم، فتحسّنت أحواله الماديّة وأصبح لا يحتاج حتّى لمجرّد الانفاق من المرتّب الذي يقدّمه له السلطان. فحسد الدّهان عامل البناء وقال في نفسه: “هو الذي بنى وأنا الذي دهنت، فلماذا يضع السلطان عامل البناء في الحمّام ولا يضعني أنا؟ لماذا لست أنا الذي يربح مئات أو آلاف الدينارات؟ أنا لن أتركه لحاله”. ذهب الدهان إلى السلطان وقال له:” يا سيدي، أنت تكرّمت على الرعيّة وكان لك فضل عليها وصنعت لها حمّاما وقدّمت لها حقّ الاغتسال بدون مقابل، ولكنّ هذا الرجل الذي وضعته هنا يجبر الناس على دفع المال، فقد خصّص سعرا لكل شيء، وقد خصّص سعرا لمن يريد مدلّكا وخصّص سعرا لمن يريد دخول بيت الطهارة، كما أنّه لا يعطيهم منشفة أو قطعة صابون إلاّ بعد أن يجعلهم يدفعون المال. يا سيدي إنّ الناس أصبحوا يتضجّرون منه. وزيادة على ذلك يا سيدي فإنّ أصحاب الدسائس الذين هم أعداء العرش المفدّى يقولون بأنّ عامل البناء لا يتصرّف من تلقاء نفسه، إنّهم يقولون “لابدّ أنّه يسلّم المال للسلطان، لقد أصبح السلطان يعيش بمال الحمام”. قال السلطان: “ويحهم ماذا يقولون؟ أيّها الوزير، خذ عامل البناء وضعه في كيس ثمّ ارمه في البحر مثل الكلب، ولتأخذ أنت مكانه في الحمام أيّها الدهان.” كاد الوزير أن يتكلّم ويقول “نادي عامل البناء يا سيدي حتى تعرف المسألة وتبحث فيها، لكنه خاف أن يقول “ربما أنّ هذا الرجل يكذب عليك، ربّما هناك نزاع بينهما. ابحث حتّى تجد شهودا”، لقد رأى بأنّ السلطان غاضب جدّا وفي حالة هيجان، فسكت. عند منتصف النهار وصدور الحكم، عاد الوزير إلى داره فذهب ليرسل في طلب عامل البناء وقال له: “يا بنيّ، لقد طلب مني سيّدنا بأن أغرقك في البحر”، فقال له: “لماذا يا سيدي؟ ما هو الذنب الذي ارتكبتُه؟”، قال له: “إنّي أعلم أنك مظلوم وأنا أقدر أن لا أنفّذ أمر السلطان لكن لديّ شرط، أريدك أن تبقى هنا عندي في الدار ولا تخرج ولا تصل إلى الباب ولا تطل من الشباك، إلى أن ينتهي عمرك وتموت. أكمل حياتك هنا، لأنّه إذا رآك أحدهم وأخبر السلطان فإنّهم سيقطعون رؤوسنا، إنّي أقوم بعمل صالح من أجلك فلا يجوز أن ترضى بأن يصيبني السّوء فأنا أب لأطفال”، قال له عامل البناء: ” أنا موافق على قرارك”. كان للوزير غرفة متروكة في الحديقة ومحاطة بسور، فوضعه هناك ثمّ ذهب إلى السلطان وقال له: “لقد نفّذت الأمر المطاع، وليحفظك الله يا سيدي”. أمّا الدهان فقد ذهب ونصّب نفسه في الحمام وأصبح دفع المال هناك ضرورة، فبعد أن كان الناس يعطون بعض المال من أجل الإحسان وحسب رغبتهم أصبح الدخول إلى الحمام بسعر معيّن ومسبق الدفع.
مرّت الأشهر والسنوات، وفي يوم من الأيام خرج السلطان يتفسّح في البحر راكبا مركبا مخصصا للنّزهة. وبينما كان جالسا على حافّة المركب وإذا بخاتمه يفلت من إصبعه ويسقط في البحر. لقد سقط الخاتم في أعماق البحر وأصبح من الأجدر نسيانه. وكان بحّارة السلطان قد أبدعوا في صيد الأسماك خلال ذلك اليوم. عندما عاد السلطان إلى قصره وتمّ إنزال كل الأسماك قال السلطان آمرا: “أرسلوا لكل شخص نصيبه من الأسماك،” ومن بين الأشخاص الذين سيتحصلون على نصيب من الأسماك كان الوزير. كان الوزير جالسا في منزله فأحضروا له سلّة بالأسماك وقالوا له “هذه هديّة أرسلها إليك سيّدنا. نادى الوزير للطباخة وقال لها “احملي هذه الأسماك”، ولكن قبل أن تأخذ الطباخة الأسماك اختار الوزير سمكة رفيعة وقال لها: “خوذي تلك السمكة إلى عامل البناء المسكين ليفعل بها ما يريد، يمكنه أن يشويها أو يقليها، المهم أن يشبع بها”. وصلت السّمكة إلى عامل البناء فقال: “أبلغي سلامي إلى سيّدي، وليجازيه الله على كل ما يفعله من أجلي..” وضع عامل البناء السمكة في الماء، وأخذ سكّينا لتقشيرها، ثمّ شقّ السمكة ليخرج ما بداخلها من أحشاء فوجد في وسطها خاتما، نظر إلى ذلك الخاتم فوجد بأنّه خاتم السلطان. إنّ معرفته بهذا الخاتم أمر لا غبار عليه. إنّ السلطان كان متعودا أن يأتي كل يوم جمعة إلى الحمّام ليغتسل بعد أن يترك محفظة نقوده وخاتمه وقلادته وساعته عند عامل البناء.. وضع عامل البناء الخاتم في جيبه وذهب للوزير وقال له: “يا سيدي”، أجاب الوزير “تفضّل”، فقال عامل البناء: “أريدك أن تأخذني لأقابل السلطان”، قال الوزير: “ماذا؟ آخذك لتقابل السلطان؟ يال العجب! أهكذا تكافئني بعد كل ما قمتُ به من أجلك؟ لقد عصيت أمره وأخفيتك وعتقتك من الموت؟ أتريده اليوم أن يقطّع لحمي؟ أيعقل هذا؟ إنّ المرء يجب أن يتّقي شرّ من يحسن إليه”، فقال له عامل البناء: “يا سيّدي قم بذلك ولا عليك، وعندما يسألك قل له بأنّك نفّذت أمره ورميتني في البحر ولكنّني عدت إليك”. رضي الوزير. وفي صبيحة الغد خرج السلطان إلى المحكمة، دخل الوزير وكذلك الموظفون والمشرفون في المحكمة، فتح الحارس الباب وقال: “إنّ سيّدي جاهز أيها الشاكون”. تقدّم عامل البناء وقدّم تحيّة الإجلال للسلطان، فنظر له السلطان وقال: “آه، أليس هذا هو عامل البناء أيّها الوزير؟” أجابه الوزير “نعم يا سيدي”، قال السلطان: ” ألم أعطيك الإذن بأن ترميه في البحر؟” قال الوزير: “نعم يا سيّدي، إنّ أمرك مطاع وأنا لا أخالف أمرك. لقد وضعته في كيس مغلق وربطت معه صخرة كبيرة وقطعة رصاص ثمّ ذهبت ورميته في عمق البحر. لكنّي اليوم لا أفهم من أين خرج هذا الشخص يا سيّدي”، قال له السلطان: “يال الغرابة؟”، فقال له الوزير: ” لا عجب في أمر الله فهو يحيي العظام وهي رميم”، قال له السلطان لعامل البناء: “ماذا حصل لك؟ أين كنت؟” قال له عامل البناء: “لقد جئتك لأبلغك سلام سلطان البحر”، قال السلطان: “ماذا؟ وهل يوجد سلطان في البحر؟”، قال له “أجل يا سيّدي.. فليجازي الله سيدي الوزير وكل من وضعني في ذلك الكيس المغلق وأثقلني جيّدا، فليجازيه الله كل خير، لقد رماني في البحر وغطست، ومن حسن حظّي أني جئت أماما قصر سلطان البحر، فأمسك بي العسكر وقالوا: ‘هذا غريب، من هذا؟، من أين جاء؟’ أخذوني للسلطان. سألني سلطان البحر قائلا: ‘ما الذي تفعله؟’ فحكيت له قصّتي وفسّرت له أنّ مهنتي هي البناء وحكيت له عن الحمّام الذي بنيته لك، فألحّ عليّ وأكّد قائلا: ‘أريدك أن تبني لي حمّاما مثل الحمام الذي بنيته لسلطان البر’، فبقيت كل تلك المدّة وأنا أبني وأكملت بناء الحمّام البارحة. وفجر اليوم قال لي سلطان البحر: ‘الآن سوف أرجعك للبر وأبلِغ سلامي لأخي السلطان وقل له أن يسدي لي معروفا بإرسال ذلك الدهان الذي دهن له حمّامه’، وها هي العلامة، لقد أعطاني هذا الخاتم وقال لي بأن أعطيك إيّاه.” أعطاه الخاتم، فنظر له السلطان ووجد أنّه خاتمه، فلم يعد لديه أيّ شكّ في الحكاية، فقال: “فليذهب أحدهم ليأتي بالدهان. اذهب أيّها الحارس وقل للربّان أن يجهّز المركب وينتظرني وأحضروا لي الدهان فورا، إني أريد أن أرسله مباشرة إلى المرفأ. أسرعوا حتى لا نترك أخي السلطان ينتظر”. حضرت العربة، ركبوا، ذهبوا مباشرة إلى المرفأ وصعدوا إلى المركب. ذهب حارس السلطان إلى الدهان وأحضره إلى المرفأ، ركب الدهان فوجد السلطان وجماعته موجودين هناك وكذلك وجد عامل البناء واقفا، فقال له السلطان: “يا بني إنّ أخي سلطان البحر يطلب لقاءك. لقد ذهب عامل البناء وبنى له حمّاما فأرسل لي وقال: “إنّي أريد الدهان أيضا”، إذا يا بني فلتبلّغه سلامي، وإنّي أريدك أن تكون عند حسن الظن وتقدّم له خدمة لائقة، أرجو أن لا تخذلني.” فهم الدهان الحكاية وعرف أنّ عامل البناء هو الذي نصب له المكيدة، لكن ماذا عساه يقول؟ أراد أن يبحث لنفسه عن مخرج من المأزق، فقال له: “أجل يا سيّدي، حاضر، إنّ أمر السلاطين طاعة، كن مطمئنّا، لكن من فضلك دعني أوّلا أذهب لأحضِر معدّاتي ثمّ أعود”. فقال عامل البناء “لا لا لا، لا داعي لإحضار المعدات.. وهل تعتقد أن سلطان البحر يفتقد للمعدّات؟ إنّه يملك الدهن بكل ألوانه، وفرشاة الدهن بكل أنواعها. فعندما ذهبت أنا هناك وجدت عنده كل أنواع المعدات. قال السلطان: “لا داعي لذلك فهو يملك كل شيء، هاتوا الكيس”. قال عامل البناء: “دعوني أضعه فيه، إنّي أعرف كيف يجب القيام بذلك،” ووضعه في كيس ثمّ أغلق عليه مرّتين وربط في الكيس حجرين آخرين وأخذه ثمّ رماه بنفسه في البحر وقال له: “اذهب في أمان الله، وأبلغ سلامي إلى السلطان وقبِّل يده، وأرجو أن لا تخذلني.” ويا حافر حفرة السوء إنّك تحفرها لنفسك.