كان هناك تاجر ثري قد تزوّج في هناء مع زوجته. ولكن مع مرور الوقت تبيّن أنّهما لا يستطيعان التعايش، لقد كانت خصال كلٍّ منهما مختلفة عن خصال الآخر، فالأشياء التي تُعجبه لا تعجبها، والأشياء التي تعجبها لا تعجبه. لقد كانا يختلفان في الخصال والميولات والأخلاق. أخيرا انتهى بهما الأمر إلى الطلاق، فتفارقا وعادت الى بيت أبيها.
ولكن تبيّن بعد ذلك أنّ تلك المرأة المطلّقة كانت حبلى، وبعد تسعة أشهر أنجبت ولدا. أخبر أحدهم الرجل بالبشارة فكافأه وذهب لشراء كل ما لزم من سمن وعسل وجلجلان وسميد، وكذلك اشترى الملابس اللازمة للطفل ووالدته وأرسله إليهما. كما أّنّه قام بكل ما في وسعه للتأكد من أنها لا تحتاج إلى أي شيء آخر. بدا الأمر كما لو أن القاضي أمره بفعل كل هذا ولكنّه في حقيقة الأمر كان يفعل ذلك من تلقاء نفسه، إنه يفعل ذلك من أجل ابنه وأم ابنه.
وفي يوم من الأيام، تزوجت المرأة، وقد كان زوجها تاجرا ثريا أيضاً كما أنّه كان يحبها حبّا مفرطا. كان يعطيها كل ما كان يملكه وفي كل مرة كان يكسب فيها شيئًا كان يُسند عقد الملكية لها ليصبح ذلك الشيء من أملاكها، سواء كان منزلًا أو ورشة عمل أو قطعة أرض أو فندقًا … حتى أصبح صندوقها مليئًا بعقود الملكية.
لم ير الزوج السابق ابنه منذ ولادته، لم يعرفه، ولم يكن قادرا على التعرّف عليه إذا رآه. كان الطفل قد كبر وبلغ من العمر سنتين أو ثلاث سنوات. اشتاق الأب لابنه وأراد أن يراه فأرسل شخصاً الى زوجته السابقة ليقول لها:
“اشتقت إلى ابني وأود أن أراه، هل يمكنك إرساله إلى منزلي أو إلى أي مكان تريدينه؟”
فأجابته: “أخبره بأن ينسى أن لديه ابنًا.”
-“ماذا؟ أنسى ابني؟ ابني يعيش في نفس المدينة التي أعمل فيها ولا أعرف حتى ملامحه؟ إنّ حياتي لا معنى لها بدون ابني.”
ذهب الرجل إلى الديوان راغبا في مقابلة القاضي على الفور، ولكنه في كل مرة يذهب إلى الديوان لا يتمكّن من مقابلته، فمرّة يقال له بأنّ القاضي في جلسة ومرّة يقال له بأنّ للقاضي قضايا أخرى هامّة يجب عليه أن يتفرّغ إليها. طلب الرجل المساعدة من أعوان الديوان وأعطاهم الرشوة من أجل أن يساعدوه، وأخيراً تمكّن من مقابلة القاضي وقال له:
“سيدي القاضي، أنا رجل مطلق، وابني الذي افتقده كثيرًا لم تسمح لي والدته برؤيته. “
-“ولكنك يا بني لم تدفع لها ضريبة الطلاق، وهذا يجعلك تُحرم من حقّك في رؤية طفلك.”
“لا يا سيدي. لقد كنت أقوم بكل واجباتي تجاه ابني منذ ولادته وقد قمت بما زاد عن تلك الواجبات، وإن أردت التّأكد فلديّ شهود على ذلك”.
-“حسنا، قل لي ما اسم زوجها الآن؟ “
-“إنها متزوجة من فلان وتعيش معه في منزله في حي …”
-“حسنًا، يمكنك الذهاب في حال سبيلك الآن وغدا سيتم إرسال وكيلنا إليك. غدا عند العصر اذهب وأجلس في أحد المقاهي. ما اسم المقهى الذي تريد الجلوس فيه؟ “
-“لا يهم يا سيدي، اختر أنت. “
-“حسنا، يمكنك البقاء في “مقهى العطارين”، وسيأتي إليك وكيلنا بعد الظهر ويُحضر لك ابنك ليجلس معك قليلا. يمكنك أن تقضّي معه بعض الوقت، يمكنك كذلك أن تشتري له بعض المشروبات أو الحلويات ويمكنك أن تشتري له بعض الملابس. ثم إنّ وكيلنا سيعيده إلى والدته فادفع له أجره، وهكذا سيفعل وكيلنا الشيء نفسه كل أسبوعين ويُحضر لك ابنك إلى المقهى. “
-“شكرا سيدي. أطال الله عمرك وجازاك خيرا”…ثمّ ذهب في حال سبيله.
ولكنّ الناس لا يتركون أحدا في راحة. سمع أحد الناس بما حصل بين الأب والقاضي فذهب لإخبار تلك المرأة وقال لها: “لقد التقى زوجك السّابق بالقاضي وسيأمر بإرسال الطفل إليه كلّ أسبوعين. سوف تخسرين ابنك إذا التقى بوالده وتعرّف عليه.” وعلى الفور اشترت المرأة مائة بيضة وست دجاجات ووضعت كلّ شيء في سلّة ثمّ ذهبت بها إلى منزل القاضي.
قالت: “سيدي، اليوم جاءك فلان لرؤية ابنه.. أنا والدة الطفل وأنا متأكدة من أنّ الولد إذا اعتاد على والده فسوف يبتعد عني.”
قال القاضي: “حسنا. يمكنك الذهاب في حال سبيلك.”
قالت: “إني أعلم أنّ الأمر بين يديك يا سيدي.”
قال القاضي: “لا عليك، اطمئني.”
ذهب الرجل إلى السوق باكرا في صباح اليوم التالي باحثا من متجر إلى آخر حتى وجد القماش الذي يعجبه وصنع منه كسوة لابنه، واشترى له قبعة وكيسا كبيرا جدّا يحتوي على الحلوى بكل أنواعها، وذهب منذ الظهر لينتظر ابنه في المقهى. لقد كان سعيدًا للغاية ومتحمسًا لرؤية ابنه.
ولكن موعد العصر قد جاء وابنه لم يأتي بعد، انتظر ربع ساعة، ثم نصف ساعة، ثمّ ساعة، وقد كان يأمل أن يأتي ابنه. قال في نفسه:” لا بدّ أنّهم سيأتون، لا بدّ أنّهم في طريقهم”، وبقي ينتظر هناك إلى أن أظلمت الدنيا وسمع آذان المغرب. حلّ الليل، ولم يعد قدوم أيّ شخص ممكنا. فقد الأب الرجاء وذهب في حال سبيله.
وفي اليوم التالي، ذهب إلى الديوان للقاء القاضي ولكن الأعوان كانوا في كلّ مرّة لا يسمحون له بذلك، وجعلوه يضطر إلى العودة في اليوم الثاني ثمّ الثالث ثم الخامس ثم السادس، وكذلك أخذوا منه الكثير من المال، كما أنّ الإنهاك قد أصابه من كثرة الجلوس على مقعد الانتظار، وبعد نهاية الأسبوع قرّروا السماح له بمقابلة القاضي، فقال:
” سيدي القاضي، في المرة الأخيرة التي تحدثنا فيها، وعدتني بأنكم ستحضرون ابني إلى المقهى … لكنني لم أرى ابنى ولم أرى الوكيل. “
قال القاضي: “ولكنّ هذا الأمر يخصّك أنت. أنا لست مطالبا بشيء.”
-“ولكن يا سيدي، أنت الذي أمرت بذلك!”
-“أخرجوا هذا الرجل من أمامي.” جاء الأعوان وجرّوا الرّجل بينما كان يحاول مقاومتهم إلى أن أخرجوه.
خرج الرجل من عند القاضي مهزوما وقال في نفسه: “لن أبقى في هذه البلاد بعد الآن؟” بدأ الرجل يبيع في جميع أملاكه ويكسب المال إلى أن لم يتبقى له شيء يبيعه، ثم شقّ طريقه إلى بلاد أخرى.
أمّا ذلك الولد فقد كبُر وأصبح رجلا، ثمّ توفيت أمّه وكذلك توفّي زوج أمّه، وأصبح رجلا ثريّا ثمّ تزوج. ذات يوم اشترى لزوجته سوارا ذهبيا وقال لها: “أريدك أن ترتدي هذا السوار في ذراعك ولا تنزعيه أبداً مهما حدث”. مرّت السنوات وكان ذلك السوار دائما في ذراعها.
ومع مرور السنوات لم تكن الأمور تسير على ما يرام مع أبيه الذي سارت تجارته بشكل سيّء وقد باع كل ما يملك من أجل أن يحصل على الطعام، ولم يتبقى له أيّ شيء يفعله في تلك البلاد وقرّر العودة إلى بلاده، وكما يقول المثل:” بلادي وإن جارت عليّ عزيزة.” لم يكن يملك المال فسار على قدميه رويدا رويدا حتّى وصل بلاده، فرآه أحد أصحابه القدماء فناداه قائلا:
-“يا فلان، إنّه أنت! يا لها من مصادفة! لم أكن أتوقّع رؤيتك! ولكن ما الذي أوصلك إلى هذه الحالة؟”
-“إنها قصة طويلة “
-“هيا بنا نتناول بعض القهوة”. دخلوا إلى المقهى وجاء اثنان من أصدقائه القدماء، وبدأوا يتحدّثون في الموضوع.
فقالوا له: “لماذا لا تذهب إلى ابنك، إنه ثري”.
قال: “لا أريد أن أكون عبئا على أي شخص حتى وإن كان ذلك الشخص ابني.”
-“لما لا؟ يمكنه على الأقل أن يمنحك نقودا لشراء حمار ومعدات لجلب الماء للناس وكسب المال.” أحبّ الرّجل الفكرة.
-“أين منزل الولد؟”
“إنّه في الحي الفلاني.”
ظل يسأل عن ذلك الحي حتى وصل إلى المنزل، طرق الباب، وعندما فتحت زوجة ابنه الباب ورأته، ظنت أنه متسول فأحضرت له بسرعة قطعة من الخبز.
قال: “لا، أنا لست متسولا، أنا والد زوجك. “
“والد زوجي؟”
“أجل. أنا والد زوجك. اسمي فلان”
“ولكن أين كنت؟ ومن فعل فيك كل هذا؟ “
“لقد حدث ما حدث، إنّها الأقدار. لقد جئت إلى هنا لعلّ ابني يعطيني بعض المال لأشتري حمارا وأوعية لجلب الماء للناس وكسب المال لأنني لا أحب أن أكون عبئا على أي شخص.”
لم ترغب تلك المرأة في تركه منتظرا حتى وصول ابنه الذي كان غائبا ذلك اليوم كما أنّها لم تكن تملك نقودا في البيت، فنزعت ذلك السوار من ذراعها وقالت: “خذ، هذا يمكن أن يساعدك.”
مرّ اليوم الأول والثاني والثالث، ولم يتفطّن زوجها لما وقع إلاّ في اليوم الرابع فقال لها:
” أين سوارك؟ أخبرتك أنني لا أريدك أن تنزعيه على الإطلاق!”
قالت: ” لقد نسيت أن أخبرك، لقد جاء والدك إلى هنا.”
-“والدي؟
-“إنه والدك، لقد جاء وقال لي… فلم أرغب في تركه منتظرا، لذلك نزعت السوار وأعطيته إيّاه.”
“يال العجب، ويحه من غضبي! انطلق الابن في عجلة من أمره وسأل الجميع عن مكان والده حتّى قيل له: “والدك في ذلك المقهى.”
ذهب إلى المقهى المعلوم وتمكّن من التعرّف على والده بعد أن وصفوه له. وقف الابن أمام أبيه وقال له:
“كيف تجرأت ووقفت أمام داري؟ ثم صفعه على وجهه أما جميع الناس.” تعجّب جلساء أبيه مما حدث وقالوا:
“كيف يُعقل أن تنجب ولدا ثمّ يكبر ويصفعك أمام الجميع؟”
قال الأب: “أنا لا ألومه، إنّه ليس خطأه، إنّه خطأ القاضي الذي حرمني منه وكذلك خطأ ووالدته التي جعلته يكرهني، أنا لا ألومه فهو لم يعرفني أبدا “.
عاد الابن إلى منزله وقال لزوجته:
لقد ضربته بصفعة عظيمة،”
-” من الشخص الذي ضربته؟”
-“ابي.”
-“ماذا؟”
لبست المرأة عباءتها واستعدّت للخروج.
قال لها: “ما الذي يحدث؟”
-“سأعود إلى منزل أبي.”
-” لماذا؟”
-“لن أبقى مع شخص يعصي والديه”.
-“وما دخلك في ذلك؟ إنه أمر بيني وبين والدي. “
-“بما أنّك تعصي والديك فإنّ أطفالك سيكونون مثلك وسيعصون والديهم.. ولا حاجة لي في البقاء هنا.”
وفي تلك اللحظة أدرك الابن خطورة ما اقترفه وشعر بالذنب ثمّ عاد يجري إلى أبيه ونزل على الأرض وقبّل رجليه وقال:
“أبي، أرجوك سامحني؟”
ثم أحضره إلى منزله وأعطاه أحسن غرفة ليسكن فيها وكان كل يوم يقبّل يد أبيه ويقول له:
“أرجو قد تكون قد صفحت عني يا أبي.”