يُحكى أنّ أمينا للتجّار كان له ثلاثة أولاد قد كبروا حتّى بلغوا سنّ الزّواج. فقال أمين التجّار لزوجته : ” لقد حان وقت تزويجهم”. فقالت زوجته : ” فلتتوكّل على الله، لكن تمهّل قليلا، لنتفّق أوّلا، سيتزوّج الأبناء الثلاثة وهذا يعني أنه سيكون معنا في الدّار ثلاث كنّات، وحكايات الحموات والكنّات كثيرة كشعر الرأس و متنوّعة ومتشعّبة ، فكم من كنّة تكره حماتها، وكم من حماة لا تحبّ كنّتها، وكم حصل من جدال وخصام وتشابك وتّلاسن وقلّة احترام ممّا يخلّف العار، و أنا لست قادرة على هذه الصراعات. أنا أحبّ الإحترام. لقد حملت بأولادي وولدتهم وسهرتُ على تربيتهم، وهاهم يقبّلون يدي عند دخولهم وخروجهم عليّ من أجل إرضائي، إنّهم أبناء برَرَة حفظهم الله، وأنا لا أرغب – لا قدّر الله- أن أدخل في صراعات مع كنّة فتشتكيني لابني وأشتكي له منها بدوري. كما أنّنا في رغد من العيش، ولا نملك هذا المنزل فحسب، فلتهب لكلّ واحد منهم منزلا يسكنه هو وزوجته، وليسكنا هنيئا مليئا فإنّ كثرة الاختلاط تسبّب سوء المعاملة، وليحافظ كلّ واحد على كرامته، فالبعد بين الأحبّة خير لكليهما”.
فقال لها زوجها :” بارك الله فيكِ، ما قلتِ إلاّ صَوابا”.
ثمّ ذهب الزوج وأصلح المنازل وقام بطلاء الجدران وأثّث البيوت، وخطب فتاة لكلّ ابن من أبنائه وزوّجه وأسكنه منزلا ، وظلّ مع امرأته في بيته حتى وافته المنيّة.
وبقيت أرملته من بعده تعيش مع خادمة، ولم تكن تلك الأرملة منقوصة من أيّ شيء، لقد كان لها رزق وافر وخير كثير ممّا تركه لها زوجها. كانت لا تعوزها حاجة ولا تمسّها خصاصة.
مرّ العام الأوّل تلاه الثاني وعقبه الثالث، فاشتاقت لأبنائها، فبعد مرور خمس سنوات لم يزرها فيها أحد رغبت في زيارتهم وقضاء أيّام مع كلّ واحد منهم وتجاذب أطراف الحديث معهم.
أرسلت لابنها البكر قائلة : ” غدا سآتيك ضيفة”.
حين عاد الابن إلى منزله ليلا في ذلك اليوم، نسي أن يخبر زوجته. وحين خرج في الصباح نسي أن يخبر زوجته، ولم يتذكر إلاّ عندما شرع في فتح حانوته. عند مغادرته صباحا غفل أيضا عن إخبارها، ولم يتذكّر أمّه إلاّ حين همّ بفتح حانوته، فاشترى مقدارا لا بأس به من المأكولات وأرسلها مع صانعه وأوصاه قائلا:” احملها إلى البيت وأخبرهم أنّه لدينا اليوم ضيف”.
فأوقدت زوجته النار وقطعت اللحم وطبخت وجهّزت مائدة الطعام وأعدّت أجمل أطباقها. بقي على موعد الإفطار ساعة، وإذا بعربة تقف أمام الدار وطُرق الباب. نزلت السيدة العجوز من عربتها ماسكة عكازها وكانت خادمتها تمشي إلى جانبها. حين لمحتها الكَنّة اغتاظت وقالت في نقسها: “إني أنتظر ضيوفا اليوم، ولكن ها بحماتي تحلّ بمنزلي اليوم كسلاح الشيطان، ألم تختر إلاّ هذا اليوم من أجل الزيارة؟ لكن ما عساها تفعل، لقد فعل الله ما شاء.
– ” عمت مساء سيّدتي، كيف حالك، لقد طال غيابك، فلتتفضّلي بالدخول”.
أدخلتها غرفة الجلوس وأمرت خادمتها بأن تُعدّ لها قهوة، وانشغلت بفطورها.
عند الظهيرة عاد زوجها كعادته و دخل عليها في المطبخ .
– ” أيتها المرأة الحرّة، إنّ رائحة طعامك لذيذة”.
-” ماسبب قدوم أمّك؟ “
– ” أليست هي من أنجبتني وربتني ؟ “
– ” لكنّ ذلك كان منذ سنوات عديدة.
-” لكن يتوجب علينا أن نفرح بقدومها ، هل لنا أيّ خيار آخر؟”.
– ” حسناً، فلنعطيها لحمة ثمّ نخرجها خارج المنزل.”
سمعت حماتها كلّ ما دار بين كنّتها وابنها، فقالت لخادمتها : ” أسرعي بجلب عربة “.
خرجت الخادمة ولبست الأمّ السّفساري.
دخل ابنها : ” عمت مساء يا أمّي، كيف حالك؟ ما بكِ تلتحفين؟ “
– ” يا بنيّ جئت لأطمئنّ على أحوالكم ورأيتكم بعافية والحمد للّه، أترككم في أمان الله الآن”.
خوفا من ردّة فعل زوجته لم يصر الابن على بقاء أمّه ولم يضف كلمة واحدة ولم يلحّ على بقائها، اصطحبها هو وزوجته إلى العربة وسلّم عليها وقبّلها و تمنّى لها السّلامة”.
وحين بلغت الأمّ منزلها قالت : ” إنّي أحسب ابني البكر منذ اليوم في عِداد الموتى”.
وبكت بحُرقة.
ثمّ قامت بعد مرور ثلاثة أيّام بطبخ معكرونة وعند المغيب قالت لخادمتها :
– ” اذهبي لدعوة قرّاء “زاوية سيدي عبد القادر”، سأقوم الليلة بالترحُّم على سيّدكِ ، إنّنا لم نذكره منذ وفاته”. لكنّها في قرارة نفسها كانت تعتبر أنّ ذلك العشاء هو عشاء قد أعدّته بمناسبة “وفاة” ابنها الكبير.
بعد أسبوع، أرسلت لابنها الثاني، ولكن عند قدومها وجدت نفس المصير الذي وجدته في بيت ابنها الكبير فعادت إلى منزلها وأقامت عشاءً يرمز إلى فراقه.
بعد مرور ما يقارب أسبوعا أو نصف أرسلت لآبنها الثّالث، وقبل ساعة من وقت الظّهيرة، وقفت العربة أمام الدّار، نزلت الأمّ وخادمتها. وحين رأتها الكنّة استشاطت غيظا، لكن ما عساها تقول، صافحتها، أجلستها، جهّزت لها قهوة، ثمّ قصدت المطبخ لإحضار الطّعام. عاد زوجها إلى المنزل ودخل المطبخ ثمّ قال:
– ” ما ألذّ رائحة طعامك أيتها المرأة الحرّة!”
-” وما الفائدة من ذلك وقد قدمت أمّكَ؟”
– ” أليست أمّي، ألم تلد وتربّي؟”
-” لكن ذلك كان منذ سنوات عديدة ! “
فغضب وأقسم قائلا: “لن تبيتي في هذا المنزل بعد اليوم.”
فهرعت أمّه العجوز راكضة وقالت له : ” اهدأ يا بُنيّ ، أكلّ ما يحدث بسببي؟ اللهمّ لا تجعلني سببا في سوء”.
فقال ابنها لزوجته: ” أنت طالق بالثلاثة، بل بالثلاثة آلاف. أسرعي بجمع متاعكِ ولتذهبي إلى بيت أبيك، عجّلي قبل انقضاء النهار”.
فضلّت أمّه تتحسّر قائلة في نفسها : ” يال هذه الواقعة، إنّ بقيّة اخوته الذين فضّلوا نساءهم عليّ في بيوتهم هانئين ، وابني هذا الذي لم يرضى إهانتي كنتُ سببا في خلاء بيته وترمّله؟ ماذا عساي أفعل، ما العمل ؟”
ذهبت العجوز إلى منزل عمّ ابنها راغبة في ابنته التي كبرت بعد مضي سنوات وصارت في سنّ الزواج. خطبتها لابنها ثمّ قالت: ” عليك بالإصرار ولا يغرّنك الغرور، فإنّ الشيطان أمّار بالسوء، لا تخشى قول الحقّ وكن جريئا، ثبّت عقل الحكمة وقبل أن تطلب يد شخص اسأل عن أصله، وتزوّج ابنة عمّ تفتخر بها، إنها وصاية من سبقونا من الأسلاف، وإذا ما رغبت في صنع وعاء اختره من طينة تربتك فإنّه وإن لم يصلح كلّه فقد ينفعك جزؤه. “