طُلِّقت امرأة من زوجها، وكان الطلاق قديما وصمة عار، وما كان الطلاق من شيم النبلاء، وكانت هناك فئة من الناس لا يعترفون بهذا الانفصال. وإذا اضطرّ أحدهم إلى الطّلاق بسبب تفاقم المشاكل بينه وبين زوجته فإنّه يُخفي ذلك عن النّاس خجلا من مواجهتهم. إذ يذهب به الظنّ إلى أنّ الجميع يتغامزون عليه ويشيرون إليه بأصابعهم. وهذا العار لا يُمْحى من تاريخ كلّ عائلة نبيلة. وتجد أحيانا من يقال عنه بأنّ جدّه أو أخوه أو خاله كان قد طلّق في الماضي.. وتُوسم المرأة أيضا بفعل مُشين إذا طُلّقت مما يُجبرها على تفضيل الموت على الحياة لِما تواجهه من نبذ الناس و احتقارهم لها وتساؤلهم عن سبب طلاقها.
كان اسم تلك المرأة المطلّقة جبرا. احتدّ الخصام بينها و بين زوجها فأعلن لها طلاقه منها . انفطر قلبها، ادلهمّت الدنيا في عينيها، فتحت الباب وخرجت كالمغشيّ عليه لا تعلم أين ستذهب. تجنّبت الذهاب إلى منزل والديها خشية منهما و خجلا من الأهل والجيران خوفا من ردّة فعلهم. و من عادة النساء الثرثرة و السخرية و الإيحاء، والويل لمن يقع فريستهنّ. بدأت تتدرّج حتى بلغت الغابة وتوغّلت فيها وحين نزل اللّيل ذهبت وجلست تحت شجرة. و بينما هي كذلك تهادى إلى مسمعها زئير ووقع طبل ولاح لها أسد يتبختر و يزأر ضاربا بذيله جنبيه حتّى بلغها.
سألها:
– “ما الذي أتى بك إلينا؟ نحن لا نذهب حيث أنتم فما سبب قدومك؟ ألا تخشين الموت؟”
أجابت:
– “لست مُقدمة على الموت لكنّ زوجي طلّقني”.
– “ماذا اقترفت؟ “
– “لا ذنب لي، إنّني مظلومة. ألا يكفيني ظلم زوجي لتأكلني أنت؟ما الذنب الذي اقترفته ؟”
-“لا بأس أنت بأمان. أترغبين في العيش معي؟”
-“أنا موافقة
-“إذن تعالي، اتبعيني.”
تبِعَته حتى بلغا عرينه فاستطاب لها العيش معه. كان الأسد يسعى الى طلب الرزق كل صبح فيعود حاملا مَرّة أرنبا و مرّة حجلا و أخرى ثعلبا و مرّة أخرى غزالة. أمّا جبرا فكانت توقد النّار وتشوي وتُعدّ الطعام وكانا في وئام دائم. كانت جبرا مطيعة وكان هو خدوما ومتحسّرا على وهن صحته. كانت في رغد من العيش أمّا هو فلا يبخل عليها بعطاء. وعاد ذات ليلة ليتفاجأ بوجودها في حالة وجوم.
فسألها:
” – هل أنت بخير؟”
– “أنا بخير. “
وفي اليوم التالي كانت على نفس تلك الحالة .
فسألها:
“ماذا أصابكِ ؟ أترغبين في شيء؟ أنال أحدهم منك؟ اشتقت لأهلك، أليس كذلك؟”
– بَلى، اشتقت إلى أمّي و إخوتي و أهلي و جيراني، إنّ لي أهلا في هذه الدنيا، فأنا لست يتيمة أو مجهولة النسب.
“- لا داعي للقلق. غدا سأوصلك إلى أهلك”. وفي الصباح سارا في الطريق حتى آخر الغابة و حين بانت معالم القرية قال:
“-سأعطيك ثلاثة أيام زيارة وسأعود لأصطحبك فجر اليوم الثالث”.
ودّعها وافترقا. دخلت القرية وبلغت زقاقها فطرقت باب بيت أهلها.
“-من الطارق؟”
“- جبرا”.
هرعت أمها و أخواتها إليها وأشبعوها عناقا و تقبيلا حتى بلغ ذلك مسامع الجيران. هبّ الجميع لزيارتهم في البيت وحلّوا عليهم ضيوفا يقدّمون التهاني ويستمتعون بما لذّ و طاب.
سألها بعضهم:
–”أين كنتِ؟ لقد طال غيابكِ، أين كنت كلّ هذه المدّة ؟”
– ” كفاني أناساً! كفاني رجالا! لقد تزوجت أسدا”.
“-ماذا؟ تزوجت أسدا؟ كيف تم ذلك؟”
أخذت جبرا في وصف محاسنه مفتخرة به كسائر النساء من قوّة و شجاعة و شهامة و رجولة و كرم و جزيل العطاء، كما أن الحيوانات تخشاه و الناس أيضا. كانت تقاسمه حياة هنيئة أما هو فكان مواظبا على بذل جهده في التزامه بالعمل. كذلك كان يتجنب ما اعتاده الرجال من سهر و لهو. كان خدوما ملبّيا لكلّ رغباتها. كانت النساء يتابعن حديثها بانبهار حتى تمنّت إحداهن لو تزوّجت أسدا عوض زوجها المهمل، وشكت أخرى من سوء حظّها في الزواج. أما أخرى فتبرّأت منها وقالت أنها تخاف أن يأكلها الأسد. بينما ظلت جبرا تشكر فعله و تمجّد صنيعه. و بما أنّ الأمّهات غالبا ما يلازمهنّ الشكّ، فبعد انصراف الجميع اختلت الأم بجبرا و رمتها بوابل من الأسئلة كأنها ستستنطقها:
-“يا بنيتي هل يحترمك و يعاملك بلين؟ هل يوقظك و يخيفك؟”
أجابتها جبرا :
-“لا يا أماه. انه شهم ونبيل “.
أصرّت الأم ملّحة حتى اعترفت جبرا:
-” فيه عيب واحد يا أماه، ألا وهو رائحة فمه الكريهة”.
في تلك الأثناء، صادف أن سمع الأسد حديثهما و هو خلف المنزل حيث أنه قدم باكرا قبل موعده لاصطحاب جبرا. فعاد أدراجه ثم رجع من الغد فجرا. تقابلا و عادا الى الغابة وهو في غضب شديد. كلما سألته جبرا ما بك أجاب :
“-لا شيء”
“-هل أصابك مكروه؟”
“-لا لم يصبني شيء”
وبينما كانا يتجولان في الغابة ذات يوم وجدا فأسا.
فقال الأسد:
-احملي ذلك الفأس و صوّبيه بين عينيّ”.
فانفجرت جبرا ضاحكة:
“-ويحي! كيف لي أن أضربك؟و بفأس؟”
أصرّ الأسد فاستنكرت موقفه و رفضت، فغضب و صار الشر يتطاير من عينيه. هدّدها الأسد بقتلها إذا لم تطع أمره و تضربه. ارتبكت و حملت الفأس بين يديها و غرسته في رأسه وما لبث أن سالت الدماء. أخذت جبرا تبحث مذعورة عن بعض الحشائش في الغابة و قضت شهرا تداوي جراحه حتى تعافى. أخذت تحمد الله وتشكره على استرجاع الأسد لعافيته و أطلقت زغاريدا تعبيرا عن فرحها.
قال الأسد:
“-صمتا! لا يُحتفل بالأبخر “.
استنكرت موقفه. فقال: “لسانك يصونك. إن صنته صانك و إن خنته خانك. الجرح يندمل يا جبرا إذا عولج بالضمائد لكن كلمة السوء راسخة في الأذهان ولا تمحى “.
ثم انقضّ عليها وأكلها.